الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ودخلت السنون المجدبة وقحط الناس ، وأصابهم الجوع قال العلماء: وبلغ الجدب أرض كنعان وهلكت ماشية يعقوب ودوابه ، وجاع هو وأولاده ، فقال لهم: انطلقوا فاشتروا لنا من عزيز مصر طعاما . وكان يوسف قد أقعد صاحب جوازه على الطريق ، وأمره أن لا يترك أحدا من أهل الشام يدخل مصر إلا سأله عن حاله وقصته ، فلما قدم ولد يعقوب سألهم من أين هم؟ فقالوا: نحن كنعانيون من بني يعقوب النبي عليه السلام ، وكتب إلى يوسف بذلك ، وأنهم يريدون اشتراء طعام ، فورد الكتاب على يوسف فبكى بكاء شديدا ، ثم قال: عز علي يا نبي الله بما قاسيت من فقراء الشام وجوعها ، وأنا ملك مصر ، ثم أدخلهم عليه فعرفهم وهم له منكرون [12: 58] فجعته العبرة ، ثم قال: من أين أنتم؟ قالوا: من وادي كنعان ، قال: ومن أنتم؟ قالوا: بنو يعقوب النبي ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، فقال: حياكم الله يا ولد يعقوب ، ألكم حاجة؟

            قالوا: نعم ، أصابتنا خصاصة ، فوجهنا يعقوب إليك نمتار منك طعاما ، فأمر بصرارهم فأخذت ، ثم دعا فتاه من حيث لا يشعرون ، فأمره أن يجعل كل صرة في حمل من الأحمال التي يكيل فيها الطعام لهم ، وكان هو يتولى الكيل بنفسه ويخيط الحمل بنفسه ، فلما أرادوا الرحيل ، قال: كيف رأيتم سيرتي وحسن ضيفي؟ قالوا: جزاك الله خيرا ، فقال: إن لي إليكم حاجة ، قالوا: وما حاجتك؟ قال: تخبروني كم ولد يعقوب؟ قالوا: اثنا عشر ، قال: فما أرى إلا عشرة ، قالوا: أما أحدهما وكان يقال له يوسف ، وكان أجملنا فأكله الذئب ، قال: فالآخر ، قالوا: موكل بخدمة يعقوب يتسلى به ، قال: فآتوني بأخيكم هذا ، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون [12: 60] .

            فرجعوا إلى يعقوب فقصوا عليه قصتهم ، فبكى يعقوب ، وقال: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل [12: 64] ثم فتحوا متاعهم فوجدوا الصرار ، فقالوا: يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا [12: 65] ثم ما زالوا بيعقوب حتى بعث معهم ابن يامين ، ثم إنه كره أن تصيبهم العين ، فقال: لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة [12: 67] .

            فلما وصلوا إليه فرأى يوسف ابن يامين خنقته العبرة ، فلما جلسوا نصب لهم موائد ستة ، وأمر كل واحد منهم أن يأخذ بيد أخيه من أمه وأبيه فيجلسان على مائدة ، وأخذ كل واحد بيد أخيه ، فبقيت مائدة خالية وابن يامين قائم وحده ، فقال يوسف: يا غلام ما لك لا تقعد مع إخوتك؟ قال: ليس لي قرين ، ولقد كان لي أخ فأكله الذئب ، فقال: أتحب يا غلام أن أجلس أنا معك؟ قال: نعم ، فجلس معه فجعل ابن يامين يبكي ، قال: ما لك؟ قال: أرى في وجهك علامات طالما كنت أراها في وجه أخي يوسف .

            فلما كال لهم أمر فتاه أن يجعل الصواع في رحل ابن يامين فلما خرجوا نادى مناد: أيتها العير إنكم لسارقون [12: 70] .

            فجرى لهم ما قص في القرآن إلى أن ظهر الصواع في رحل ابن يامين ، فأقبلوا يلطمون وجه ابن يامين ، وهو يقول: وحق شيبة إبراهيم ما سرقت ولا علمت كما لم تعلموا أنتم بصراركم قبل ذلك ، فلما رجعوا إلى أبيهم ، تخلف روبيل ، وقال: فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي [12: 80] .

            فلما أخبروا يعقوب ، قال: عسى الله أن يأتيني بهم جميعا [12: 83] ، ثم أعرض عنهم ، وقال يا أسفى على يوسف [12: 84] ، وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم مملوء من الحزن والغيظ فقال له بنوه : تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا - أي : دنفا - أو تكون من الهالكين . فأجابهم يعقوب فقال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون من صدق رؤيا يوسف .

            وقيل : بلغ من وجد يعقوب وجد سبعين مبتلى ، وأعطي على ذلك أجر مائة شهيد .

            قيل : دخل على يعقوب جار له فقال : يا يعقوب ، قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك ! فقال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف . فأوحى الله إليه : أتشكوني إلى خلقي ؟ قال : يا رب خطيئة فاغفرها . قال : قد غفرتها لك . فكان يعقوب إذا سئل بعد ذلك قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فأوحى الله إليه : لو كانا ميتين لأحييتهما لك ، إنما ابتليتك لأنك قد شويت وقترت على جارك ولم تطعمه .

            وقيل : كان سبب ابتلائه أنه كان له بقرة لها عجول فذبح عجولها بين يديها وهي تخور فلم يرحمها يعقوب ، فابتلي بفقد أعز ولده عنده ، وقيل : ذبح شاة ، فقام ببابه مسكين فلم يطعمه منها ، فأوحى الله إليه في ذلك وأعلمه أنه سبب ابتلائه ، فصنع طعاما ونادى : من كان صائما فليفطر عند يعقوب .

            ثم إن يعقوب أمر بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع إليها وتجسس الأخبار عن يوسف وأخيه ، فرجعوا إلى مصر

            التالي السابق


            الخدمات العلمية