ثم إن فرعون ركب مركبا وليس عنده موسى فلما جاء موسى قيل له : فرعون قد ركب ، فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض يقال لها منف - وهذه منف ( بفتح الميم وسكون النون ) - مصر القديمة التي هي مصر يوسف الصديق ، وهي الآن قرية كبيرة ، فدخلها وقد أغلقت أسواقها ، قال تعالى : ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي : وذلك نصف النهار . وفي رواية عن ابن عباس : بين العشائين فوجد فيها رجلين يقتتلان أي ; يتضاربان ويتهاوشان هذا من شيعته أي ; إسرائيلي وهذا من عدوه أي ; قبطي . قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه وذلك أن موسى ، عليه السلام ، كانت له بديار مصر صولة ; بسبب نسبته إلى تبني فرعون له وتربيته في بيته ، وكانت بنو إسرائيل قد عزوا وصارت لهم وجاهة ، وارتفعت رءوسهم بسبب أنهم أرضعوه ، وهم أخواله ، أي من الرضاعة ، فلما استغاث ذلك الإسرائيلي موسى ، عليه السلام ، على ذلك القبطي ، أقبل إليه موسى فوكزه قال مجاهد : أي طعنه بجمع كفه . وقال قتادة : بعصا كانت معه فقضى عليه أي ; فمات منها . وقد كان ذلك القبطي كافرا مشركا بالله العظيم ، ولم يرد موسى قتله بالكلية ، وإنما أراد زجره وردعه ، ومع هذا قال موسى هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم أوحى الله تعالى إلى موسى : وعزتي لو أن النفس التي قتلت أقرت لي ساعة واحدة أني خالق رازق لأذقتك العذاب . قال رب بما أنعمت علي أي ، من العز والجاه فلن أكون ظهيرا للمجرمين .
فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين قيل : كان حزقيل مؤمن آل فرعون ، كان على بقية من دين إبراهيم - عليه السلام - وكان أول من آمن بموسى . فلما أخبره خرج من بينهم خوف موسى وخروجه من مصر فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين [ القصص 18 - 21 ] . يخبر تعالى أن موسى أصبح بمدينة مصر خائفا أي من فرعون وملئه ، أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل ، فتقوى ظنونهم أن موسى منهم ويترتب على ذلك أمر عظيم ، فصار يسير في المدينة في صبيحة ذلك اليوم خائفا يترقب أي ; يتلفت . فبينما هو كذلك ، إذا ذلك الرجل الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس يستصرخه أي ; يصرخ به ، ويستغيثه على آخر قد قاتله ، فعنفه موسى ولامه على كثرة شره ، ومخاصمته ، قال له إنك لغوي مبين ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي ، الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلي ، فيردعه عنه ويخلصه منه ، فلما عزم على ذلك وأقبل على القبطي قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين [ القصص : 19 ] . قال بعضهم : إنما قال هذا الكلام الإسرائيلي الذي اطلع على ما كان صنع موسى بالأمس ، وكأنه لما رأى موسى مقبلا إلى القبطي ، اعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك بقوله إنك لغوي مبين فقال ما قال لموسى ، وأظهر الأمر الذي كان وقع بالأمس ، فذهب القبطي فاستعدى فرعون على موسى . وهذا الذي لم يذكره كثير من الناس سواه . ويحتمل أن قائل هذا هو القبطي ، وأنه لما رآه مقبلا إليه خافه ; ورأى من سجيته انتصارا جيدا للإسرائيلي ، فقال ما قال من باب الظن والفراسة ، أن هذا لعله قاتل ذاك القتيل بالأمس ، أو لعله فهم من كلام الإسرائيلي ، حين استصرخه عليه ، ما دله على هذا . والله أعلم .
والمقصود أن فرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالأمس ، فأرسل في طلبه ، وسبقهم رجل ناصح من طريق أقرب إليه ، وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى ساعيا إليه مشفقا عليه فقال : ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج أي ; من هذه البلدة إني لك من الناصحين أي ; فيما أقوله لك . قال الله تعالى : فخرج منها خائفا يترقب أي ; فخرج من مدينة مصر من فوره ، على وجهه ، لا يهتدي إلى طريق ولا يعرفه ، قائلا : رب نجني من القوم الظالمين . وأخذ في ثنيات الطريق ، فجاءه ملك على فرس وفي يده عنزة ، وهي الحربة الصغيرة ، فلما رآه موسى سجد له من الفرق . فقال له : لا تسجد لي ولكن اتبعني ، فهداه نحو مدين . وقال موسى وهو متوجه إليها : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل . فانطلق به الملك حتى انتهى به إلى مدين ، قال سعيد بن جبير: خرج إلى مدين وبينه وبينها مسيرة ثمان ، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر فخرج حافيا .