الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ولما ورد ماء مدين وكانت بئرا يستقون منها . ومدين هي المدينة التي أهلك الله فيها أصحاب الأيكة ، وهم قوم شعيب عليه السلام ، وقد كان هلاكهم قبل زمن موسى ، عليه السلام ، في أحد قولي العلماء . ولما ورد الماء المذكور وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان أي ; تكفكفان غنمهما أن تختلط بغنم الناس . وعند أهل الكتاب ، أنهن كن سبع بنات . وهذا أيضا من الغلط . ولعله كان له سبع ، ولكن إنما كان تسقي اثنتان منهن . وهذا الجمع ممكن إن كان ذلك محفوظا ، وإلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتين .

            قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير أي ; لا نقدر على ورد الماء إلا بعد صدور الرعاء ; لضعفنا ، وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره . قال الله تعالى : فسقى لهما قال المفسرون : وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم ، وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة ، فتجيء هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس ، فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده ، ثم استقى لهما ، وسقى غنمهما ، ثم رد الصخرة كما كانت . قال أمير المؤمنين عمر : وكان لا يرفعه إلا عشرة . وإنما استقى ذنوبا واحدا فكفاهما ، ثم تولى إلى الظل . قالوا : وكان ظل شجرة من السمر . وروى ابن جرير ، عن ابن مسعود ، أنه رآها خضراء ترف . فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير . قال ابن عباس : سار من مصر إلى مدين ، لم يأكل إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافيا فسقطت نعلا قدميه من الحفاء وجلس في الظل ، وهو صفوة الله من خلقه ، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع ، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه ، وأنه لمحتاج إلى شق تمرة . قال عطاء بن السائب : لما قال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير أسمع المرأة .

            فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل [ القصص : 25 - 28 ] . لما جلس موسى ، عليه السلام ، في الظل ، وقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير سمعته المرأتان ، فيما قيل ، فذهبتا إلى أبيهما ، فيقال : إنه استنكر سرعة رجوعهما ، فأخبرتاه ما كان من أمر موسى عليه السلام ، فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه فجاءته إحداهما تمشي على استحياء أي ; مشي الحرائر . قال عمر ، رضي الله عنه : تستر وجهها بكم درعها إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا صرحت له بهذا ; لئلا يوهم كلامها ريبة ، وهذا من تمام حيائها وصيانتها . ذهاب موسى إلى صاحب مدين فقام معها ، فمشت بين يديه ، فضربت الريح ثوبها فحكى عجيزتها ، فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق ، فإنا أهل بيت لا ننظر في أعقاب النساء .

            فلما جاءه وقص عليه القصص أي ; وأخبره خبره ، وما كان من أمره ; في خروجه من بلاد مصر فرارا من فرعونها ، قال له ذلك الشيخ : لا تخف نجوت من القوم الظالمين أي ; خرجت من سلطانهم ، فلست في دولتهم .

            الاختلاف في تحديد شخصية صاحب مدين وقد اختلفوا في هذا الشيخ ; من هو ؟ فقيل : هو شعيب ، عليه السلام . وهذا هو المشهور عند كثيرين . وممن نص عليه الحسن البصري ، ومالك بن أنس ، وجاء مصرحا به في حديث ، ولكن في إسناده نظر . وصرح طائفة بأن شعيبا ، عليه السلام ، عاش عمرا طويلا بعد هلاك قومه ، حتى أدركه موسى ، عليه السلام ، وتزوج بابنته . وروى ابن أبي حاتم وغيره ، عن الحسن البصري ، أن صاحب موسى ، عليه السلام ، هذا اسمه شعيب ، وكان سيد الماء ، ولكن ليس بالنبي صاحب مدين . وقيل : إنه ابن أخي شعيب . وقيل : ابن عمه . وقيل : رجل مؤمن من قوم شعيب . وقيل : رجل اسمه يثرون . هكذا هو في كتب أهل الكتاب : يثرون كاهن مدين . أي ; كبيرها وعالمها . قال ابن عباس ، وأبو عبيدة بن عبد الله : اسمه يثرون . زاد أبو عبيدة : وهو ابن أخي شعيب . زاد ابن عباس : صاحب مدين .

            والمقصود أنه لما أضافه وأكرم مثواه ، وقص عليه ما كان من أمره ، بشره بأنه قد نجا ، فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها يا أبت استأجره أي; لرعي غنمك . ثم مدحته بأنه قوي أمين . قال عمر ، وابن عباس ، وشريح القاضي ، وأبو مالك ، وقتادة ، ومحمد بن إسحاق ، وغير واحد : لما قالت ذلك قال لها أبوها : وما علمك بهذا؟ فقالت : إنه رفع صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة ، وإنه لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال : كوني من ورائي ، فإذا اختلف الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق . قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة; صاحب يوسف حين قال لامرأته : أكرمي مثواه وصاحبة موسى حين قالت : ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب

            قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين استدل بهذا جماعة من أصحاب أبي حنيفة ، رحمه الله ، على صحة ما إذا باعه أحد هذين العبدين أو الثوبين ، ونحو ذلك ، أنه يصح; لقوله : إحدى ابنتي هاتين وفي هذا نظر; لأن هذه مراوضة لا معاقدة . والله أعلم . مشروعية الإيجار بالطعمة والكسوة واستدل أصحاب أحمد على صحة الإيجار بالطعمة والكسوة ، كما جرت به العادة ، واستأنسوا بالحديث الذي رواه ابن ماجه في " سننه " مترجما في كتابه " باب استئجار الأجير على طعام بطنه " : عن علي بن رباح اللخمي ، قال : سمعت عتبة بن الندر السلمي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله قال : إن موسى ، عليه السلام ، آجر نفسه لعفة فرجه وطعمة بطنه .

            ثم قال تعالى : ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل [ القصص : 28 ] . يقول : إن موسى قال لصهره : الأمر على ما قلت ، فأيهما قضيت فلا عدوان علي ، والله على مقالتنا سامع وشاهد ، ووكيل علي وعليك . ومع هذا فلم يقض موسى إلا أكمل الأجلين وأتمهما ، وهو العشر سنين كوامل تامة .

            وعن سعيد بن جبير ، قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت : لا أدري ، حتى أقدم على حبر العرب فأسأله . فقدمت ، فسألت ابن عباس ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل . وعن مجاهد مرسلا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن ذلك جبريل ، فسأل جبريل إسرافيل ، فسأل إسرافيل الرب ، عز وجل ، فقال : أبرهما وأوفاهما قال : وإن سئل : أي المرأتين تزوج؟ فقل : الصغرى منهما وأما اسم المرأة التي تزوجها فهو صفورا ، والأخرى ليا . فلما أراد فراق شعيب ، أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام ، وكانت غنمه سودا حسانا ، فانطلق موسى ، عليه السلام ، إلى عصا قسمها من طرفها ، ثم وضعها في أدنى الحوض ، ثم أوردها فسقاها ، ووقف موسى ، عليه السلام ، بإزاء الحوض ، فلم تصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة قال : فأتأمت وأثلثت ووضعت كلها قوالب ألوان ، إلا شاة أو شاتين; ليس فيها فشوش ، ولا ضبوب ، ولا عزوز ، ولا ثعول ، ولا كمشة تفوت الكف . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم ، وهي السامرية

            التالي السابق


            الخدمات العلمية