الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ما جرى له بعد انفصاله عن مدين  لما أتم موسى الأجلين وأكملهما ، سار بأهله أي من عند صهره ذاهبا ، فيما ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم ، أنه اشتاق إلى أهله ، فقصد زيارتهم ببلاد مصر ، في صورة مختف ، فلما سار بأهله ، ومعه ولدان منهم ، وغنم قد استفادها مدة مقامه . قالوا : واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة ، وتاهوا في طريقهم ، فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف وكانت الليلة التي أراد الله - عز وجل - لموسى كرامته ، وابتداءه فيها بنبوته ، وكلامه ، وكانت امرأته حاملا ، فأخذها الطلق في ليلة شاتية ذات مطر ، ورعد ، وبرق ، فأخرج زنده ليقدح نارا لأهله ليصطلوا ويبيتوا حتى يصبح ويعلم وجه طريقه ، فأصلد زنده فقدح حتى أعيا ، فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور ، وهو الجبل الغربي منه عن يمينه ، فقال لأهله : امكثوا إني آنست نارا وكأنه - والله أعلم - رآها دونهم; لأن هذه النار هي نور في الحقيقة ، ولا تصلح رؤيتها لكل أحد لعلي آتيكم منها بخبر أي; لعلي أستعلم من عندها عن الطريق أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة; لقوله في الآية الأخرى : وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى [ طه : 9 ، 10 ] . فدل على وجود الظلام ، وكونهم تاهوا عن الطريق .

            وجمع الكل في سورة " النمل " في قوله تعالى : إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون [ النمل : 7 ] . وقد أتاهم منها بخبر ، وأي خبر؟ ووجد عندها هدى ، وأي هدى؟ واقتبس منها نورا ، وأي نور؟ . قال الله تعالى : فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وقال تعالى في " النمل " : فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين [ النمل : 8 ] . أي سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم [ النمل : 9 ] . وقال في سورة " طه " : فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [ طه : 11 - 16 ] . قال غير واحد من المفسرين ، من السلف والخلف : لما قصد موسى إلى تلك النار التي رآها ، فانتهى إليها ، وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج ، وكل ما لتلك النار في اضطرام ، وكل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد ، فوقف متعجبا ، وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه; كما قال تعالى وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين [ القصص : 44 ] . وكان موسى في واد اسمه طوى ، فكان موسى مستقبل القبلة ، وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب ، فناداه ربه بالواد المقدس طوى ، فأمر أولا بخلع نعليه; تعظيما وتكريما وتوقيرا لتلك البقعة المباركة ، ولا سيما في تلك الليلة المباركة . وعند أهل الكتاب أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور; مهابة له وخوفا على بصره .

            ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلا له : إني أنا الله رب العالمين إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري أي; أنا الله رب العالمين ، الذي لا إله إلا هو الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له . ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار ، إنما الدار الباقية يوم القيامة ، التي لا بد من كونها ووجودها لتجزى كل نفس بما تسعى أي; من خير وشر . وحضه وحثه على العمل لها ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه ، واتبع هواه . ثم قال له مخاطبا ومؤانسا ، ومبينا له أنه القادر على كل شيء الذي يقول للشيء : كن . فيكون : وما تلك بيمينك ياموسى [ طه : 17 ] . أي; أما هذه عصاك التي تعرفها منذ صحبتها؟ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مئارب أخرى [ طه : 18 ] . أي; بل هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها قال ألقها ياموسى فألقاها فإذا هي حية تسعى [ طه : 19 ، 20 ] . وهذا خارق عظيم ، وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء : كن فيكون . وأنه الفعال بالاختيار .

            وعند أهل الكتاب أنه سأل برهانا على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر ، فقال له الرب عز وجل : ما هذه التي في يدك؟ قال : عصاي . قال : ألقها إلى الأرض فألقاها فإذا هي حية تسعى فهرب موسى من قدامها ، فأمره الرب ، عز وجل ، أن يبسط يده ويأخذها بذنبها ، فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده . وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب أي; صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة ، وأنياب تصطك ، وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان ، وهو ضرب من الحيات يقال له : الجان والجنان . وهو لطيف ، ولكنه سريع الاضطراب والحركة جدا ، فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة هروب موسى بعد معاينة العصى فلما عاينها موسى ، عليه السلام ، ولى مدبرا أي; هاربا منها; لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك ولم يعقب أي; ولم يلتفت فناداه ربه قائلا له : ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى فيقال : إنه هابها شديدا ، فوضع يده في كم مدرعته ، ثم وضع يده في وسط فمها - وعند أهل الكتاب : بذنبها - فلما استمكن منها ، إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين . فسبحان القدير العظيم رب المشرقين والمغربين . ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه ، ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضا من غير سوء أي; من غير برص ولا بهق . ولهذا قال : اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب قيل : معناه إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك . وهذا وإن كان خاصا به ، إلا أن ببركة الإيمان به حق الإيمان ينتفع من استعمل ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء . وقال في سورة " النمل " : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين [ النمل : 12 ] . أي; هاتان الآيتان وهما العصا واليد ، وهما البرهانان المشار إليهما في قوله : فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين ومع ذلك سبع آيات أخر فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة " سبحان " حيث يقول تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا [ الإسراء : 101 ، 102 ] . وهي المبسوطة في سورة " الأعراف " في قوله : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين [ الأعراف : 130 - 133 ] . وهذه التسع الآيات غير العشر كلمات فإن التسع من آيات الله القدرية ، والعشر من كلماته الشرعية . وإنما نبهنا على هذا; لأنه قد اشتبه أمرها على بعض الرواة فظن أن هذه هي هذه .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية