الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            أمر الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام باللين في القول لفرعون قال تعالى : اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وهذا من حلمه تعالى ، وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه ، مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره ، وهو إذ ذاك أردى خلقه وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان ، ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن; برفق ولين ، ويعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى ، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ النحل : 125 ] . وقال تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم الآية [ العنكبوت : 46 ] . قال الحسن البصري : فقولا له قولا لينا . أعذرا إليه ، قولا له : إن لك ربا ولك معادا ، وإن بين يديك جنة ونارا . وقال وهب بن منبه : قولا له : إني إلي العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة . وقال يزيد الرقاشي عند هذه الآية : يا من يتحبب إلى من يعاديه ، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى وذلك أن فرعون كان جبارا عنيدا ، شيطانا مريدا ، له سلطان في بلاد مصر طويل عريض ، وجاه وجنود وعساكر وسطوة ، فهاباه من حيث البشرية ، وخافا أن يسطو عليهما في بادئ الأمر ، فثبتهما تعالى ، وهو العلي الأعلى ، فقال : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ، كما قال في الآية الأخرى : إنا معكم مستمعون فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى [ طه : 47 ، 48 ] . يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون ، فيدعواه إلى الله تعالى; أن يعبده وحده لا شريك له ، وأن يرسل معهم بني إسرائيل ، ويطلقهم من أسره وقهره ، ولا يعذبهم قد جئناك بآية من ربك وهو البرهان العظيم في العصي واليد والسلام على من اتبع الهدى تقييد مفيد بليغ عظيم . ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب ، فقالا : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى أي; كذب بالحق بقلبه ، وتولى عن العمل بقالبه .

            وقد ذكر السدي وغيره ، أنه لما قدم من بلاد مدين ، دخل على أمه وأخيه هارون وهما يتعشيان من طعام فيه الطفيشل; وهو اللفت فأكل معهما ، ثم قال يا هارون ، إن الله أمرني وأمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته ، فقم معي . فقاما يقصدان باب فرعون ، فإذا هو مغلق ، فقال موسى للبوابين والحجبة : أعلموه أن رسول الله بالباب . فجعلوا يسخرون منه ويستهزئون به . وقد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل . وقال محمد بن إسحاق : أذن لهما بعد سنتين; لأنه لم يك أحد يتجاسر على الاستئذان لهما . فالله أعلم . ويقال : إن موسى تقدم إلى الباب فطرقه بعصاه فانزعج فرعون وأمر بإحضارهما ، فوقفا بين يديه ، فدعواه إلى الله ، عز وجل ، كما أمرهما . وقيل إن موسى وهارون مكثا سنتين يغدوان إلى باب فرعون ويروحان يلتمسان الدخول إليه فلم يجسر أحد يخبره بشأنهما ، حتى أخبره مسخرة كان يضحكه بقوله ، فأمر حينئذ فرعون بإدخالهما . دخول موسى وهارون على فرعون فلما دخلا قال له موسى : إني رسول من رب العالمين . فعرفه فرعون فتكبر في نفسه ، وعتا وطغى ، ونظر إلى موسى ، عليه السلام ، بعين الازدراء والتنقص ، قائلا له : ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين أي; أما أنت الذي ربيناه في منزلنا وأحسنا إليه ، وأنعمنا عليه مدة من الدهر؟ وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فر منه ، خلافا لما عند أهل الكتاب من أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين ، وأن الذي بعث إليه فرعون آخر . وقوله : وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين أي; وقتلت الرجل القبطي ، وفررت منا ، وجحدت نعمتنا قال فعلتها إذا وأنا من الضالين أي قبل أن يوحى إلى ، وينزل على ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين [ الشعراء : 21 ] . ثم قال مجيبا لفرعون عما امتن به عليه من التربية والإحسان إليه وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ الشعراء : 22 ] . أي; وهذه النعمة التي ذكرت ، من أنك أحسنت إلي ، وأنا رجل واحد من بني إسرائيل ، تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله ، واستعبدتهم في أعمالك وخدمتك وأشغالك .

            قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [ الشعراء : 23 - 28 ] . يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى ، من المقاولة والمحاجة والمناظرة ، وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية . وذلك أن فرعون ، قبحه الله ، أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى ، وزعم أنه الإله فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى [ النازعات : 23 ، 24 ] . وقال : ياأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري [ القصص : 38 ] . وهو في هذه المقالة معاند ، يعلم أنه عبد مربوب ، وأن الله هو الخالق البارئ المصور ، الإله الحق ، كما قال تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ النمل : 14 ] . ولهذا قال لموسى ، عليه السلام ، على سبيل الإنكار لرسالته ، والإظهار أنه ما ثم رب أرسله : وما رب العالمين [ الشعراء : 23 ] . لأنهما قالا له : إنا رسول رب العالمين فكأنه يقول لهما : ومن رب العالمين ، الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما؟ فأجابه موسى قائلا : رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين [ الشعراء : 24 ] . يعني رب العالمين ، خالق هذه السماوات والأرض المشاهدة ، وما بينهما من المخلوقات المتجددة; من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات ، التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ، ولا بد لها من موجد ومحدث وخالق ، وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين . قال أي; فرعون لمن حوله من أمرائه ، ومرازبته ووزرائه ، على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى ، عليه السلام : ألا تستمعون يعني كلامه هذا . قال موسى مخاطبا له ولهم : ربكم ورب آبائكم الأولين [ الشعراء : 26 ] . أي; هو الذي خلقكم والذين من قبلكم; من الآباء والأجداد والقرون السالفة في الآباد ، فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أبوه ولا أمه ، ولم يحدث من غير محدث ، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين . وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ فصلت : 53 ] . ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ، ولا نزع عن ضلالته ، بل استمر على طغيانه وعناده ، وكفرانه قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [ الشعراء : 27 ، 28 ] . أي; هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة ، المسير للأفلاك الدائرة ، خالق الظلام والضياء ورب الأرض والسماء ، رب الأولين والآخرين ، خالق الشمس والقمر ، والكواكب السائرة والثوابت الحائرة ، خالق الليل بظلامه والنهار بضيائه ، والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون ، وفي فلك يسبحون ، يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون ، فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء .

            معجزة العصى واليد فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ولم يبق له قول سوى العناد ، عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته ، قال : قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ الشعراء : 29 - 33 ] . وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما ، وهما العصا واليد . وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم ، الذي بهر به العقول والأبصار ، حين ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، أي عظيم الشكل ، بديع في الضخامة والهول ، والمنظر العظيم الفظيع الباهر ، حتى قيل : إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه ، أخذه رعب شديد ، وخوف عظيم ، بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم واحد ، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوما إلا مرة واحدة ، فانعكس عليه الحال . وقيل فحملت على الناس فانهزموا منها ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، قتل بعضهم بعضا . وهكذا لما أدخل موسى ، عليه السلام ، يده في جيبه واستخرجها ، أخرجها وهي كفلقة القمر ، تتلألأ نورا يبهر الأبصار ، فإذا أعادها إلى جيبه رجعت إلى صفتها الأولى ، ومع هذا كله لم ينتفع فرعون ، لعنه الله ، بشيء من ذلك ، بل استمر على ما هو عليه ، وأظهر أن هذا كله سحر ، وأراد معارضته بالسحرة ، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ، ومن في رعيته وتحت قهره ودولته ، من إظهار الله الحق المبين ، والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملئه ، وأهل دولته وملته ، ولله الحمد والمنة .

            وقال تعالى في سورة " طه " : فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ طه : 40 - 46 ] . يقول تعالى مخاطبا لموسى ، فيما كلمه به ليلة أوحى إليه ، وأنعم بالنبوة عليه ، وكلمه منه إليه : قد كنت مشاهدا لك وأنت في دار فرعون ، وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري ، فلبثت فيها سنين ثم جئت على قدر أي; مني لذلك ، فوافق ذلك تقديري وتسييري واصطنعتك لنفسي أي; اصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري يعني : ولا تفترا في ذكري إذ قدمتما عليه ، ووفدتما إليه; فإن ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته ، وإهداء النصيحة إليه ، وإقامة الحجة عليه . وقد جاء في بعض الأحاديث : يقول الله تعالى : إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] .

            وقال الله مخبرا عن فرعون : قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى [ طه : 49 - 55 ] . يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه أنكر إثبات الصانع تعالى ، قائلا : فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي; هو الذي خلق الخلق ، وقدر لهم أعمالا وأرزاقا وآجالا ، وكتب ذلك عنده في كتابه اللوح المحفوظ ، ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له ، فطابق علمه فيهم على الوجه الذي قدره وعلمه; لكمال علمه وقدرته وقدره . وهذه الآية كقوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [ الأعلى : 1 - 3 ] . أي; قدر قدرا وهدى الخلائق إليه قال فما بال القرون الأولى يقول فرعون لموسى : فإذا كان ربك هو الخالق المقدر ، الهادي الخلائق ، لما قدره ، وهو بهذه المثابة من أنه لا يستحق العبادة سواه ، فلم عبد الأولون غيره وأشركوا به من الكواكب والأنداد ما قد علمت؟ فهلا اهتدى إلى ما ذكرته القرون الأولى؟ قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى أي; هم وإن عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك ، ولا يدل على خلاف ما أقول; لأنهم جهلة مثلك ، وكل شيء فعلوه مستطر عليهم في الزبر من صغير وكبير ، وسيجزيهم على ذلك ربي ، عز وجل ، ولا يظلم أحدا مثقال ذرة; لأن جميع أفعال العباد مكتوبة عنده في كتاب لا يضل عنه شيء ، ولا ينسى ربي شيئا . ثم ذكر له عظمة الرب ، وقدرته على خلق الأشياء وجعله الأرض مهادا ، والسماء سقفا محفوظا ، وتسخيره السحاب والأمطار لرزق العباد ودوابهم وأنعامهم ، كما قال : كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى أي; لذوي العقول الصحيحة المستقيمة والفطر القويمة غير السقيمة . فهو تعالى الخالق الرزاق . وكما قال تعالى : يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ البقرة : 21 ، 22 ] . ولما ذكر إحياء الأرض بالمطر ، واهتزازها بإخراج نباتها فيه ، نبه به على المعاد فقال : منها أي; من الأرض خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى كما قال تعالى : كما بدأكم تعودون [ الأعراف : 29 ] . وقال تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [ الروم : 27 ] .

            ثم قال تعالى : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى ففرعون لكثرة جهله وقلة عقله في تكذيبه بآيات الله ، واستكباره عن اتباعها ، قال لموسى : إن هذا الذي جئت به سحر ونحن نعارضك بمثله .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية