الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            لما رأى فرعون قومه قد دخلهم الرعب من موسى خاف أن يؤمنوا به ويتركوا عبادته فاحتال لنفسه ، وقال لوزيره : وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب [ غافر : 36 ، 37 ] . كذب فرعون موسى ، عليه السلام ، في دعواه أن الله أرسله ، وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه ، في قوله لهم : ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين [ القصص : 38 ] . وقال هاهنا : لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات أي; طرقها ومسالكها فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ويحتمل هذا معنيين; أحدهما ، وإني لأظنه كاذبا في قوله : إن للعالم ربا غيري . والثاني ، في دعواه أن الله أرسله . والأول أشبه بظاهر حال فرعون ، فإنه كان ينكر ظاهر إثبات الصانع ، والثاني أقرب إلى اللفظ; حيث قال : فأطلع إلى إله موسى أي; فأسأله هل أرسله أم لا ، وإني لأظنه كاذبا أي; في دعواه ذلك . وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى ، عليه السلام ، وأن يحثهم على تكذيبه . قال الله تعالى : وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وقرئ : ( وصد عن السبيل ) قال ابن عباس ومجاهد : يقول : إلا في خسار . أي باطل ، لا يحصل له شيء من مقصوده الذي رامه ، فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدا - أعني السماء الدنيا - فكيف بما بعدها من السماوات العلى ، وما فوق ذلك من الارتفاع الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل .

            وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح ، وهو القصر الذي بناه وزيره هامان له ، لم ير بناء أعلى منه ، وأنه كان مبنيا من الآجر المشوي بالنار ، ولهذا قال : فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا وعند أهل الكتاب أن بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن ، وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه ، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه ، ويطلب منهم كل يوم قسط معين ، إن لم يفعلوه وإلا ضربوا وأهينوا غاية الإهانة ، وأوذوا غاية الأذية . ولهذا قالوا لموسى : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط ، وكذلك وقع ، وهذا من دلائل النبوة . وارتفع البنيان ارتفاعا لم يبلغه بنيان آخر ، فشق ذلك على موسى واستعظمه ، فأوحى الله إليه : أن دعه وما يريد فإني مستدرجه ومبطل ما عمله ساعة واحدة . فلما تم بناؤه أمر الله جبرائيل فخربه وأهلك كل من عمل فيه من صانع ومستعمل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية