الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            دخول بني إسرائيل التيه وما جرى لهم فيه من الأمور العجيبة فلما ضرب عليهم التيه ندم موسى ، فقالوا: يا موسى كيف لنا ها هنا بالطعام ، فأنزل الله عليهم المن والسلوى فأما المن فقيل هو كالصمغ وطعمه كالشهد يقع على الأشجار ، وقيل : هو الترنجبين ، وقيل : هو الخبز الرقاق ، وقيل : هو عسل كان ينزل لكل إنسان صاع ، وأما السلوى فهو طائر يشبه السمانى . فقالوا : أين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين . فقالوا : أين الظل ؟ فظلل عليهم الغمام فقالوا : أين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم ولا يتمزق لهم ثوب . ثم قالوا : ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم . فلما خرجوا من التيه رفع عنهم المن والسلوى . مما جرى في فترة التيه ومما جرى في فترة التيه أن يوشع جهزه موسى لقتال طائفة من الكفار ، وأن موسى وهارون ، وخور ، جلسوا على رأس أكمة ، ورفع موسى عصاه ، فكلما رفعها انتصر يوشع عليهم وكلما مالت يده بها من تعب أو نحوه ، غلبه أولئك ، وجعل هارون وخور يدعمان يديه عن يمينه وشماله ذلك اليوم إلى غروب الشمس ، فانتصر حزب يوشع عليه السلام . وعندهم; أن يثرون كاهن مدين ، وختن موسى ، عليه السلام ، بلغه ما كان من أمر موسى ، وكيف أظفره الله بعدوه فرعون فقدم على موسى مسلما ومعه ابنته صفورا زوجة موسى ، وابناها منه جرشون ، وعازر ، فتلقاه موسى وأكرمه ، واجتمع به شيوخ بني إسرائيل ، وعظموه وأجلوه . وذكروا أنه رأى كثرة اجتماع بني إسرائيل على موسى ، في الخصومات التي تقع بينهم ، فأشار على موسى أن يجعل على الناس رجالا أمناء ، أتقياء ، أعفاء ، يبغضون الرشاء والخيانة ، فيجعلهم على الناس رءوس ألوف ، ورءوس مئين ، ورؤس خمسين ، ورؤس عشرة ، فيقضوا بين الناس ، فإذا أشكل عليهم أمر جاءوك ، ففصلت بينهم ما أشكل عليهم ، ففعل ذلك موسى عليه السلام . قالوا : ودخل بنو إسرائيل البرية ، عند سيناء في الشهر الثالث من خروجهم من مصر ، وكان خروجهم في أول السنة التي شرعت لهم ، وهي أول فصل الربيع . فكأنهم دخلوا التيه في أول فصل الصيف . والله أعلم . قالوا : ونزل بنو إسرائيل حول طور سيناء ، وصعد موسى الجبل ، فكلمه ربه ، وأمره أن يذكر بني إسرائيل ما أنعم الله به عليهم من إنجائه إياهم من فرعون وقومه ، وكيف حملهم على مثل جناحي نسر من يده وقبضته ، وأمره أن يأمر بني إسرائيل بأن يتطهروا ويغتسلوا ويغسلوا ثيابهم وليستعدوا إلى اليوم الثالث ، فإذا كان في اليوم الثالث فليجتمعوا حول الجبل ، ولا يقتربن أحد منهم إليه ، فمن دنا منه قتل ، حتى ولا شيء من البهائم ، ما داموا يسمعون صوت القرن ، فإذا سكن القرن فقد حل لكم أن ترتقوه ، فسمع بنو إسرائيل ذلك ، وأطاعوا ، واغتسلوا ، وتنظفوا ، وتطيبوا ، فلما كان اليوم الثالث ركب الجبل غمامة عظيمة ، وفيها أصوات وبروق ، وصوت الصور شديد جدا ، ففزع بنو إسرائيل من ذلك فزعا شديدا ، وخرجوا فقاموا في سفح الجبل ، وغشي الجبل دخان عظيم في وسطه عمود نور ، وتزلزل الجبل كله زلزلة شديدة ، واستمر صوت الصور ، وهو البوق ، واشتد ، وموسى ، عليه السلام ، فوق الجبل ، والله يكلمه ويناجيه ، وأمر الرب ، عز وجل ، موسى أن ينزل ، فيأمر بني إسرائيل أن يقتربوا من الجبل; ليسمعوا وصية الله ، ويأمر الأحبار ، وهم علماؤهم ، أن يدنوا فيصعدوا الجبل; ليتقدموا بالقرب - وهذا نص في كتابهم على وقوع النسخ لا محالة - فقال موسى : يا رب إنهم لا يستطيعون أن يصعدوه ، وقد نهيتهم عن ذلك فأمره الله تعالى أن يذهب ، فيأتي معه بأخيه هارون ، وليكن الكهنة ، وهم العلماء ، والشعب ، وهم بقية بني إسرائيل ، غير بعيد . ففعل موسى ، وكلمه ربه عز وجل ، فأمره حينئذ بالعشر كلمات .

            وعندهم; أن بني إسرائيل سمعوا كلام الله ، ولكن لم يفهموا حتى فهمهم موسى ، وجعلوا يقولون لموسى : بلغنا أنت عن الرب ، فإنا نخاف أن نموت . فبلغهم عنه ، فقال هذه العشر الكلمات; وهي الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، والنهي عن الحلف بالله كاذبا ، والأمر بالمحافظة على السبت ، ومعناه تفرغ يوم من الأسبوع للعبادة . وهذا حاصل بيوم الجمعة ، الذي نسخ الله به السبت ، أكرم أباك وأمك ، ليطول عمرك في الأرض ، الذي يعطيك الله ربك ، لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد على صاحبك شهادة زور ، لا تمد عينك إلى بيت صاحبك ، ولا تشته امرأة صاحبك ، ولا عبده ، ولا أمته ، ولا ثوره ، ولا حماره ، ولا شيئا من الذي لصاحبك ، ومعناه النهي عن الحسد .

            وقد قال كثير من علماء السلف وغيرهم : مضمون هذه العشر الكلمات في آيتين من القرآن ، وهما قوله تعالى في سورة " الأنعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ الأنعام : 151 - 153 ] . وذكروا بعد العشر الكلمات وصايا كثيرة ، وأحكاما متفرقة عزيزة ، كانت فزالت وعمل بها حينا من الدهر ، ثم طرأ عليها عصيان من المكلفين بها ثم عمدوا إليها فبدلوها ، وحرفوها ، وأولوها . ثم بعد ذلك كله سلبوها ، فصارت منسوخة مبدلة ، بعد ما كانت مشروعة مكملة ، فلله الأمر من قبل ومن بعد ، وهو الذي يحكم ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية