الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            لما أهلك الله فرعون وأنجى بني إسرائيل قالوا : يا موسى ائتنا بالكتاب الذي وعدتنا . فسأل موسى ربه ذلك ، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما ويتطهر ويطهر ثيابه ويأتي إلى الجبل - جبل طور سينا - ليكلمه ويعطيه الكتاب ، فصام ثلاثين يوما قال جماعة من السلف; منهم ابن عباس ، ومسروق ، ومجاهد : الثلاثون ليلة هي; شهر ذي القعدة بكماله ، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحجة . فعلى هذا يكون كلام الله له يوم عيد النحر ، وفي مثله أكمل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه ، وأقام حجته وبراهينه .

            والمقصود أن موسى ، عليه السلام ، لما استكمل الميقات ، وكان فيه صائما ، يقال : إنه لم يستطعم الطعام . فلما كمل الشهر أخذ لحا شجرة فمضغه ، ليطيب ريح فمه ، فأمر الله أن يمسك عشرا أخرى ، فصارت أربعين ليلة . ولهذا ثبت في الحديث أن : خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فلما عزم على الذهاب ، استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون المحبب المبجل الجليل ، وهو ابن أمه وأبيه ، ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه ، فوصاه وأمره ونهاه ، وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة ، قال الله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا أي; في الوقت الذي أمر بالمجيء فيه ، وكلمه ربه أي; كلمه الله من وراء حجاب ، إلا أنه أسمعه الخطاب ، فناداه وناجاه ، وقربه وأدناه ، وهذا مقام رفيع ، ومعقل منيع ، ومنصب شريف ، ومنزل منيف ، فصلوات الله عليه تترى وسلامه عليه في الدنيا والأخرى . ولما أعطي هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية ، وسمع الخطاب ، سأل رفع الحجاب ، فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار ، القوي البرهان : ربي أرني أنظر إليك قال لن تراني ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى; لأن الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتا ، وأشد ثباتا من الإنسان ، لا يثبت عند التجلي من الرحمن ، ولهذا قال : ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني .

            وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال له : يا موسى ، إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده . وفي " الصحيحين " ، عن أبي موسى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : حجابه النور وفي رواية : النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وقال ابن عباس ، في قوله تعالى : لا تدركه الأبصار ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء; ولهذا قال تعالى : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال مجاهد : ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فإنه أكبر منك وأشد خلقا ، فلما تجلى ربه للجبل فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل ، فخر صعقا . وروى الإمام أحمد بسنده عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال : هكذا بأصبعه ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل . لفظ ابن جرير وعن ابن عباس : ما تجلى - يعني من العظمة - إلا قدر الخنصر ، فجعل الجبل دكا ، قال : ترابا وخر موسى صعقا أي مغشيا عليه . وقال قتادة : ميتا . والصحيح الأول; لقوله : فلما أفاق فإن الإفاقة إنما تكون عن غشي . قال : سبحانك تنزيه ، وتعظيم ، وإجلال أن يراه بعظمته أحد . تبت إليك أي : فلست أسأل بعد هذا الرؤية : وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده .

            وقد ثبت في " الصحيحين " عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة الطور لفظ البخاري ، نزول التوراة على موسى وقال الله تعالى : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء وكانت الألواح من جوهر نفيس ، ففي " الصحيح " أن الله كتب له التوراة بيده وفيها مواعظ عن الآثام ، وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، فخذها بقوة أي; بعزم ونية صادقة قوية ، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي ، يضعوها على أحسن وجوهها ، وأجمل محاملها ، سأوريكم دار الفاسقين أي; ستروا عاقبة الخارجين عن طاعتي ، المخالفين لأمري ، المكذبين لرسلي . سأصرف عن آياتي أي; عن فهمها ، وتدبرها ، وتعقل معناها الذي أريد منها ، ودل عليه مقتضاها ، الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها أي; ولو شاهدوا مهما شاهدوا من الخوارق ، والمعجزات ، لا ينقادوا لاتباعها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا أي; لا يسلكوه ، ولا يتبعوه وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا أي; صرفناهم عن ذلك; لتكذيبهم بآياتنا ، وتغافلهم عنها ، وإعراضهم عن التصديق بها ، والتفكر في معناها ، وترك العمل بمقتضاها ، والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون . وعاد موسى ولا يقدر أحد أن ينظر إليه ، وكان يجعل عليه حريرة نحو أربعين يوما ، ثم يكشفها لما تغشاه من النور.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية