ذكرنا حال مريم في خدمة الكنيسة ، وكانت هي وابن عمها يوسف بن يعقوب بن ماثان النجار يليان خدمة الكنيسة ، وكان يوسف حكيما نجارا يعمل بيديه ويتصدق بذلك .
وقالت النصارى : إن مريم كان قد تزوجها يوسف ابن عمها إلا أنه لم يقربها إلا بعد رفع المسيح ، والله أعلم .
وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف ابن عمها أخذ كل واحد منهما قلته وانطلق إلى المغارة التي فيها الماء يستعذبان منه ثم يرجعان إلى الكنيسة ، فلما كان اليوم الذي لقيها فيه جبريل نفد ماؤها فقالت ليوسف ليذهب معها إلى الماء ، فقال : عندي من الماء ما يكفيني إلى غد ، فأخذت قلتها وانطلقت وحدها حتى دخلت المغارة ، فوجدت جبرائيل قد مثله الله لها بشرا سويا ، فقال لها : يا مريم إن الله قد بعثني إليك لأهب لك غلاما زكيا . قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا أي مطيعا لله ، وقيل : هو اسم رجل بعينه ، وتحسبه رجلا ، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا - أي زانية - قال كذلك قال ربك ، إلى قوله أمرا مقضيا
فلما قال ذلك استسلمت لقضاء الله ، ونفخ في جيب درعها ثم انصرف عنها وقد حملت بالمسيح ، وملأت قلتها وعادت ، وكان لا يعلم في أهل زمانها أعبد منها ومن ابن عمها يوسف النجار ، وكان معها ، وهو أول من أنكر حملها ، فلما رأى الذي بها استعظمه ولم يدر على ماذا يضع ذلك منها ، فإذا أراد يتهمها ذكر صلاحها وأنها لم تغب عنه ساعة قط ، وإذا أراد يبرئها رأى الذي بها ، فلما اشتد ذلك عليه كلمها فكان أول كلامه لها أن قال لها : إنه قد وقع من أمرك شيء قد حرصت على أن أميته وأكتمه فغلبني . فقالت : قل قولا جميلا . فقال : حدثيني هل ينبت زرع بغير بذر ؟ قالت : نعم . قال : فهل ينبت شجر بغير غيث يصيبه ؟ قالت : نعم . قال : فهل يكون ولد بغير ذكر ؟ قالت له : نعم ، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه بغير بذر ! ألم تعلم أن الله خلق الشجر من غير مطر ! وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعدما خلق كل واحد منهما وحده ! أو تقول لن يقدر الله على أن ينبت حتى يستعين بالبذر والمطر ! قال يوسف : لا أقول هكذا ولكني أقول إن الله يقدر على ما يشاء ، إنما يقول لذلك كن فيكون . قالت له : ألم تعلم أن الله خلق آدم وحواء من غير ذكر ولا أنثى ! قال : بلى ، فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله لا يسعه أن يسألها عنه لما رأى من كتمانها له .
وقيل : إنها خرجت إلى جانب الحجرات لحيض أصابها فاتخذت من دونهم حجابا من الجدران ، فلما طهرت إذا برجل معها ، وذكر الآيات ، فلما حملت أتتها خالتها امرأة زكرياء ليلة تزورها ، فلما فتحت لها الباب التزمتها ، فقالت امرأة زكرياء : إني حبلى . فقالت لها مريم : وأنا أيضا حبلى . قالت امرأة زكرياء : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك .
وولدت امرأة زكرياء يحيى . وقد اختلف في مدة حملها ، فقيل : تسعة أشهر ، وهو قول النصارى ، وقيل ثمانية أشهر ، فكان ذلك آية أخرى لأنه لم يعش مولود لثمانية أشهر غيره ، وقيل : ستة أشهر ، وقيل ثلاث ساعات ، وقيل : ساعة واحدة .