الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر ولادة المسيح ، عليه السلام

            كانت ولادة المسيح أيام ملوك الطوائف . قالت المجوس : كان ذلك بعد خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل ، وبعد إحدى وخمسين سنة مضت من ملك الأشكانيين . وقالت النصارى : إن ولادته كانت لمضي ثلاثمائة وثلاث وستين سنة من وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل ، وزعموا أن مولد يحيى كان قبل مولد المسيح بستة أشهر ، وأن مريم ، عليها السلام ، حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة ، وقيل خمس عشرة ، وقيل : عشرون ، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما ، وأن مريم عاشت بعده ست سنين ، فكان جميع عمرها إحدى وخمسين سنة ، وأن يحيى قتل قبل أن يرفع المسيح ، وأتت المسيح النبوة والرسالة وعمره ثلاثون سنة . فحملته فانتبذت به مكانا قصيا عقبة بالفاء .

            فلما أحست مريم خرجت إلى جانب المحراب الشرقي فأتت أقصاه فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت - وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس - يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، يعني نسي ذكري وأثري فلا يرى لي أثر ولا عين . قالت مريم : كنت إذا خلوت حدثني عيسى وحدثته ، فإذا كان عندنا إنسان سمعت تسبيحه في بطني . فناداها جبرائيل من تحتها - أي من أسفل الجبل - أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهو النهر الصغير ، أجراه تحتها ، فمن قرأ : من تحتها ، بكسر الميم ، جعل المنادي جبرائيل ، ومن فتحها قال إنه عيسى ، أنطقه الله ، وهزي إليك بجذع النخلة ، كان جذعا مقطوعا فهزته فإذا هو نخلة ، وقيل : كان مقطوعا فلما أجهدها الطلق احتضنته فاستقام واخضر وأرطب ، فقيل لها : وهزي إليك بجذع النخلة فهزته فتساقط الرطب فقال لها : فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ، وكان من صام في ذلك الزمان لا يتكلم حتى يمسي . ذهاب مريم بعيسى عليه السلام إلى أرض مصر

            وقيل : إنه لما دنا نفاسها أوحى الله إليها : أن اخرجي من أرض قومك فإنهم إذا ظفروا بك عيروك وقتلوك وولدك . فاحتملها يوسف النجار وسار بها إلى أرض مصر ، فلما وصلا إلى تخوم مصر أدركها المخاض ، فلما وضعت وهي محزونة قيل لها : لا تحزني الآية إلى ( إنسيا ) ، فكان الرطب يتساقط عليها وذلك في الشتاء .

            وأصبحت الأصنام منكوسة على رءوسها ، وفزعت الشياطين فجاءوا إلى إبليس ، فلما رأى جماعتهم سألهم فأخبروه ، فقال : قد حدث في الأرض حادث ، فطار عند ذلك وغاب عنهم فمر بالمكان الذي ولد فيه عيسى فرأى الملائكة محدقين فيه ، فعلم أن الحدث فيه ، ولم تمكنه الملائكة من الدنو من عيسى ، فعاد إلى أصحابه وأعلمهم بذلك وقال لهم : ما ولدت امرأة إلا وأنا حاضر ، وإني لأرجو أن أضل به أكثر ممن يهتدي .

            واحتملته مريم إلى أرض مصر فمكثت اثنتي عشرة سنة تكتمه من الناس ، فكانت تلتقط السنبل والمهد في منكبيها .

            قلت : والقول الأول في ولادته بأرض قومها للقرآن أصح لقوله تعالى : فأتت به قومها تحمله ، وقوله كيف نكلم من كان في المهد صبيا .

            وقيل : إن مريم حملت المسيح إلى مصر بعد ولادته ومعها يوسف النجار ، وهي الربوة التي ذكرها الله تعالى ، وقيل : الربوة دمشق ، وقيل : بيت المقدس ، وقيل غير ذلك ، فكان سبب ذلك الخوف من ملك بني إسرائيل ، وكان من الروم ، واسمه هيرودس ، فإن اليهود أغروه بقتله ، فساروا إلى مصر وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة إلى أن مات ذلك الملك ، وعادوا إلى الشام ، وقيل : إن هيرودس لم يرد قتله ولم يسمع به إلا بعد رفعه ، وإنما خافوا اليهود عليه ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية