الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فلما ضاق الحال -يعني على مريم عليها السلام-، وانحصر المجال وامتنع المقال ، عظم التوكل على ذي الجلال ، ولم يبق إلا الإخلاص والاتكال فأشارت إليه أي : خاطبوه وكلموه ; فإن جوابكم عليه ، وما تبغون من الكلام لديه . فعندها قال من كان منهم جبارا شقيا : كيف نكلم من كان في المهد صبيا أي : كيف تحيليننا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب ، وهو مع ذلك رضيع في مهده ، ولا يميز بين محض وزبده ، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء ، والتنقص لنا والازدراء ; إذ لا تردين علينا قولا نطقيا ، بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبيا ، فعندها قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا هذا أول كلام تفوه به عيسى ابن مريم ، فكان أول ما تكلم به أن قال إني عبد الله اعترف لربه تعالى بالعبودية ، وأن الله ربه ، فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله ، بل هو عبده ورسوله وابن أمته ، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون ، وقذفوها به ورموها بسببه بقوله : آتاني الكتاب وجعلني نبيا فإن الله لا يعطي النبوة من هو كما زعموا ، لعنهم الله وقبحهم ، كما قال تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ النساء : 156 ] . وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا : إنها حملت به من زنا في زمن الحيض ، لعنهم الله . فبرأها الله من ذلك ، وأخبر عنها أنها صديقة ، واتخذ ولدها نبيا مرسلا ، أحد أولي العزم الخمسة الكبار ، ولهذا قال : وجعلني مباركا أين ما كنت وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونزه جنابه عن النقص والعيب ; من اتخاذ الصاحبة والولد ، تعالى وتقدس . وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد ; بالصلاة ، والإحسان إلى الخليقة بالزكاة ، وهي تشتمل على طهارة النفوس من الأخلاق الرذيلة ، وتطهير الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج ، على اختلاف الأصناف ، وقرى الأضياف ، والنفقات على الزوجات ، والأرقاء ، والقرابات ، وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات ، ثم قال : وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا أي : وجعلني برا بوالدتي ، وذلك أنه تأكد حقها عليه ، لتمحض جهتها ، إذ لا والد له سواها ، فسبحان من خلق الخليقة وبرأها ، وأعطى كل نفس هداها . ولم يجعلني جبارا شقيا أي : لست بفظ ولا غليظ ، ولا يصدر مني قول ولا فعل ينافي أمر الله وطاعته . والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا وهذه المواطن الثلاثة التي تقدم الكلام عليها في قصة يحيى بن زكريا ، عليهما السلام .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية