ذكر خبر المائدة
قال الله تعالى : إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين [ المائدة : 112 - 115 ] . قد ذكرنا في التفسير الآثار الواردة في نزول المائدة ، أن عيسى ، عليه السلام ، أمر الحواريين بصيام ثلاثين يوما ، فلما أتموها وتطمئن بذلك قلوبهم ، أن الله قد تقبل صيامهم وأجابهم إلى طلبتهم ، وتكون لهم عيدا يفطرون عليها يوم فطرهم ، وتكون كافية لأولهم وآخرهم ، لغنيهم وفقيرهم ، فوعظهم عيسى ، عليه السلام ، في ذلك وخاف عليهم أن لا يقوموا بشكرها ، ولا يؤدوا حق شروطها ، فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من ربه ، عز وجل ، فلما لم يقلعوا عن ذلك ، قام إلى مصلاه ولبس مسحا من شعر ، وصف بين قدميه وأطرق رأسه ، وأسبل عينيه بالبكاء ، وتضرع إلى الله في الدعاء والسؤال ، أن يجابوا إلى ما طلبوا ، فأنزل الله تعالى المائدة من السماء ، والناس ينظرون إليها تنحدر بين غمامتين ، وجعلت تدنو قليلا قليلا ، وكلما دنت سأل عيسى ، عليه السلام ، ربه ، عز وجل ، أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها بركة وسلامة ، فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى ، عليه السلام ، وهي مغطاة بمنديل ، فقام عيسى يكشف عنها ، وهو يقول : بسم الله خير الرازقين . فإذا عليها سبعة من الحيتان ، وسبعة أرغفة ، ويقال : وخل . ويقال : ورمان وثمار . ولها رائحة عظيمة جدا . قال الله لها : كوني . فكانت ، ثم أمرهم بالأكل منها ، فقالوا : لا نأكل حتى تأكل . فقال : إنكم الذين ابتدأتم السؤال لها . فأبوا أن يأكلوا منها ابتداء ، فأمر الفقراء والمحاويج والمرضى والزمنى ، وكانوا قربيا من ألف وثلاثمائة ، فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة ، أو آفة ، أو مرض مزمن ، فندم الناس على ترك الأكل منها ; لما رأوا من إصلاح حال أولئك ، ثم قيل : إنها كانت تنزل كل يوم مرة ، فيأكل الناس منها ، يأكل آخرهم كما يأكل أولهم ، حتى قيل : إنها كان يأكل منها نحو سبعة آلاف . ثم كانت تنزل يوما بعد يوم ، كما كانت ناقة صالح يشربون لبنها يوما بعد يوم . سألوا من عيسى إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها
ثم أمر الله عيسى أن يقصرها على الفقراء أو المحاويج ، دون الأغنياء ، فشق ذلك على كثير من الناس ، وتكلم منافقوهم في ذلك ، فرفعت بالكلية ، ومسخ الذين تكلموا في ذلك خنازير .
وعن عمار بن ياسر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : نزلت المائدة من السماء خبز ولحم ، وأمروا أن لا يخونوا ، ولا يدخروا ، ولا يرفعوا لغد ، فخانوا وادخروا ورفعوا ، فمسخوا قردة وخنازير وقيل : إن العلماء اختلفوا في المائدة ، هل نزلت أم لا ؟ فالجمهور أنها نزلت ، كما دلت عليه هذه الآثار ، وكما هو المفهوم من ظاهر سياق القرآن ، ولا سيما قوله : إني منزلها عليكم كما قرره ابن جرير . والله أعلم . وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح إلى مجاهد ، وإلى الحسن بن أبي الحسن البصري ، أنهما قالا : لم تنزل . وإنهم أبوا نزولها ، حين قال : فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ولهذا قيل : إن النصارى لا يعرفون خبر المائدة ، وليس مذكورا في كتابهم مع أن خبرها مما تتوفر الدواعي على نقله . والله أعلم .
وقيل: أن سبب ذلك : أن الحواريين قالوا له : يا عيسى هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء فدعا عيسى فقال : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا فأنزل الله المائدة عليها خبز ولحم يأكلون منها ولا تنفد ، فقال لهم : إنها مقيمة ما لم تدخروا منها . فما مضى يومهم حتى ادخروا . وقيل : أقبلت الملائكة تحمل المائدة عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم ، وقيل : كان عليها من ثمار الجنة ، وقيل : كانت تمد بكل طعام إلا اللحم ، وقيل : كانت سمكة فيها طعم كل شيء ، فلما أكلوا منها ، وهم خمسة آلاف ، وزادت حتى بلغ الطعام ركبهم ، قالوا : نشهد أنك رسول الله ، ثم تفرقوا فتحدثوا بذلك . فكذب به من لم يشهده ، وقالوا : سحر أعينكم ، فافتتن بعضهم وكفر ، فمسخوا خنازير ليس فيهم امرأة ولا صبي ، فبقوا ثلاثة أيام ، ثم هلكوا ولم يتوالدوا .
وقيل : كانت المائدة سفرة حمراء تحتها غمامة وفوقها غمامة وهم ينظرون إليها تنزل حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ! اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة ولا عقوبة ! واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحها . فقال شمعون : يا روح الله ، أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنة ؟ فقال المسيح : لا من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ، إنما هو شيء خلقه الله بقدرته . فقال لهم : كلوا مما سألتم . فقالوا له : كل أنت يا روح . فقال : معاذ الله أن آكل منها ! فلم يأكل ولم يأكلوا منها ، فدعا المرضى ، والزمنى ، والفقراء ، فأكلوا منها ، وهم ألف وثلاثمائة ، فشبعوا ، وهي بحالها لم تنقص ، فصح المرضى ، والزمنى ، واستغنى الفقراء ، ثم صعدت وهم ينظرون إليها حتى توارت ، وندم الحواريون حيث لم يأكلوا منها .
وقيل : إنها نزلت أربعين يوما ، كانت تنزل يوما وتنقطع يوما ، وأمر الله عيسى أن يدعو إليها الفقراء دون الأغنياء ، ففعل ذلك ، فاشتد على الأغنياء وجحدوا نزولها وشكوا في ذلك وشككوا غيرهم فيها ، فأوحى الله إلى عيسى : إني شرطت أن أعذب المكذبين عذابا لا أعذب به أحدا من العالمين ، فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين رجلا فأصبحوا خنازير . فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى وبكوا ، وبكى عيسى على الممسوخين . فلما أبصرت الخنازير عيسى بكوا وطافوا وهو يدعوهم بأسمائهم ويشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام ، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا .