الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر وقعة يوم فرات بادقلى ، وفتحه الحيرة

            ثم سار خالد من أمغيشيا إلى الحيرة وحمل الرحال والأثقال في السفن ، فخرج مرزبان الحيرة ، وهو الأزاذبه ، فعسكر عند الغريين ، وأرسل ابنه فقطع الماء عن السفن ، فبقيت على الأرض . فسار خالد في خيل نحو ابن الأزاذبه فلقيه على فرات بادقلى ، فضربه وقتله وقتل أصحابه ، وسار نحو الحيرة ، فهرب منه الأزاذبه ، وكان قد بلغه موت أردشير وقتل ابنه ، فهرب بغير قتال ، ونزل المسلمون عند الغريين ، وتحصن أهل الحيرة فحصرهم في قصورهم . وكان ضرار بن الأزور محاصرا القصر الأبيض وفيه إياس بن قبيصة الطائي ، وكان ضرار بن الخطاب محاصرا قصر الغريين وفيه عدي بن عدي المقتول ، وكان ضرار بن مقرن المزني عاشر عشرة إخوة محاصرا قصر ابن مازن وفيه ابن أكال ، وكان المثنى محاصرا قصر ابن بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة ، فدعوهم جميعا وأجلوهم يوما وليلة ، فأبى أهل الحيرة ، وقاتلهم المسلمون ، فافتتحوا الدور والديرات وأكثروا القتل . فنادى القسيسون والرهبان : يا أهل القصر ، ما يقتلنا غيركم ! فنادى أهل القصور المسلمين : قد قبلنا واحدة من ثلاث ، وهي إما الإسلام أو الجزية أو المحاربة ، فكفوا عنهم ، وخرج إليهم إياس بن قبيصة ، وعمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث ، وهو بقيلة ، وإنما سمي بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين ، فقالوا : ما أنت إلا بقيلة خضراء ، فأرسلوهم إلى خالد ، فكان الذي يتكلم عنهم عمرو بن عبد المسيح ، فقال له خالد : كم أتى عليك ؟ قال : مئو سنين . قال : فما أعجب ما رأيت ؟ قال : رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة ، وتخرج المرأة فلا تتزود إلا رغيفا . فتبسم خالد وقال لأهل الحيرة : ألم يبلغني أنكم خبثة خدعة ، فما بالكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدرى من أين جاء ؟

            فأحب عمرو أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله وصحة ما حدثه به ، قال : وحقك إني لأعرف من أين جئت ! قال : فمن أين خرجت ؟ قال : من بطن أمي . قال : فأين تريد ؟ قال : أمامي . قال : وما هو ؟ قال : الآخرة . قال : فمن أين أقصى أثرك ؟ قال : من صلب أبي . قال : ففيم أنت ؟ قال : في ثيابي . قال : أتعقل ؟ قال : إي والله وأقيد . قال خالد : إنما أسألك ! قال : فأنا أجيبك . قال : أسلم أنت أم حرب ؟ قال : بل سلم . قال : فما هذه الحصون ؟ قال : بنيناها للسفيه نحبسه حتى ينهاه الحليم . قال خالد : قتلت أرض جاهلها ، وقتل أرضا عالمها ، القوم أعلم بما فيهم .

            وكان مع ابن بقيلة خادم معه كيس فيه سم ، فأخذه خالد ونثره في يده وقال : لم تستصحب هذا ؟ قال : خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت ، فكان الموت أحب إلي من مكروه أدخله على قومي . فقال خالد : إنها لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها ، وقال : باسم الله خير الأسماء ، رب الأرض والسماء ، الذي لا يضر مع اسمه داء ، الرحمن الرحيم . وابتلع السم . فقال ابن بقيلة : والله لتبلغن ما أردتم ما دام أحد منكم هكذا .

            وأبى خالد أن يصالحهم إلا على تسليم كرامة بنت عبد المسيح إلى شويل ، فأبوا ، فقالت : هونوا عليهم وأسلموني ، فإني سأفتدي . ففعلوا ، فأخذها شويل ، فافتدت منه بألف درهم ، فلامه الناس ، فقال : ما كنت أظن أن عددا أكثر من هذا .

            وكان سبب تسليمها إليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر استيلاء أمته على ملك فارس والحيرة - سأله شويل أن يعطى كرامة ابنة عبد المسيح ، وكان رآها شابة فمال إليها ، فوعده النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فلما فتحت الحيرة طلبها وشهد له شهود بوعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسلمها إليه ، فسلمها إليه خالد .

            وصالحهم على مائة ألف وتسعين ألفا ، وقيل : على مائتي ألف وتسعين ألفا ، وأهدوا له هدايا . فبعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر ، فقبلها أبو بكر من الجزاء ، وكتب إلى خالد أن يأخذ منهم بقية الجزية ، ويحسب لهم الهدية .

            وكان فتح الحيرة في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ، وكتب لهم خالد كتابا ، فلما كفر أهل السواد ضيعوا الكتاب ، فلما افتتحه المثنى ثانية عاد بشرط آخر ، فلما عادوا كفروا ، وافتتحها سعد بن أبي وقاص ووضع عليهم أربعمائة ألف .

            قال خالد : ما لقيت قوما كأهل فارس ، وما لقيت من أهل فارس كأهل أليس . ذكر ما بعد الحيرة

            قيل : كان الدهاقين يتربصون بخالد وينظرون ما يصنع أهل الحيرة ، فلما صالحهم واستقاموا له أتته الدهاقين من تلك النواحي ، أتاه دهقان فرات سريا وصلوبا ابن نسطونا ونسطونا ، فصالحوه على ما بين الفلاليج إلى هرمزجرد على ألفي ألف ، وقيل : ألف ألف سوى ما كان لآل كسرى ، وبعث خالد عماله ومسالحه ، وبعث ضرار بن الأزور ، وضرار بن الخطاب ، والقعقاع بن عمرو ، والمثنى بن حارثة ، وعتيبة بن النهاس ، فنزلوا على السيب ، وهم كانوا أمراء الثغور مع خالد ، وأمرهم بالغارة ، فمخروا ما وراء ذلك إلى شاطئ دجلة ، وكتب خالد إلى أهل فارس يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية ، فإن أجابوا وإلا حاربهم ، فكان العجم مختلفين بموت أردشير ، إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه بهرسير ومعه غيره كأنه مقدمة لهم ، وجبى خالد الخراج في خمسين ليلة وأعطاه المسلمين ، ولم يبق لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر ؛ لاختلافهم بموت أردشير ، إلا أنهم مجمعون على حرب خالد ، وخالد مقيم بالحيرة يصعد ويصوب سنة قبل خروجه إلى الشام ، والفرس يخلعون ويملكون ليس إلا الدفع عن بهرسير ، وذلك أن شيرى بن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى أنوشروان ، وقتل أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه - من كان بين أنوشروان وبين بهرام جور ، فبقوا لم يقدروا على من يملكونه ممن يجتمعون عليه . فلما وصلهم كتب خالد تكلم نساء آل كسرى على من يملكونه إن وجدوه .

            وصول جرير بن عبد الله البجلي إلى خالد بعد فتح الحيرة

            ووصل جرير بن عبد الله البجلي إلى خالد بعد فتح الحيرة ، وكان سبب وصوله إليه أنه كان مع خالد بن سعيد بن العاص بالشام ، فاستأذنه في المصير إلى أبي بكر ليكلمه في قومه ليجمعهم له ، وكانوا أوزاعا متفرقين في العرب ، فأذن له ، فقدم على أبي بكر فذكر له ذلك ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعده به وشهد له شهود ، فغضب أبو بكر وقال : ترى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بإزائهم من فارس والروم ، ثم أنت تكلفني ما لا يغني ؟ ! وأمره بالمسير إلى خالد بن الوليد ، فسار حتى قدم عليه بعد فتح الحيرة ، ولم يشهد شيئا مما قبلها بالعراق ، ولا شيئا مما كان خالد فيه من قتل أهل الردة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية