لما رجع الجالنوس هاربا مما لقي من المسلمين تذامرت الفرس بينهم واجتمعوا إلى رستم ، فأرسل جيشا كثيفا عليهم ذو الحاجب بهمن جاذويه ، وأعطاه راية أفريدون ، وتسمى درفش كابيان ، وكانت الفرس تتيمن بها ، وحملوا معهم راية كسرى ، وكانت من جلود النمور ، عرضها ثمانية أذرع ، فنزل بقس الناطف . وأقبل أبو عبيد فنزل بالمروحة ، فرأت دومة - امرأته أم المختار ابنه - أن رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب ، فشرب أبو عبيد ومعه نفر ، فأخبرت بها أبا عبيد فقال : لهذه إن شاء الله شهادة ! وعهد إلى الناس فقال : إن قتلت فعلى الناس فلان ، فإن قتل فعليهم فلان ، حتى أمر الذين شربوا من الإناء ، ثم قال : فإن قتل فعلى الناس المثنى وبعث إليه بهمن جاذويه إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم . فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد : مرهم فليعبروا هم إلينا . فقال : ما هم بأجرأ على الموت منا . ثم اقتحم إليهم ، فاجتمعوا في مكان ضيق فالتقوا هنالك ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله ، والمسلمون في نحو من عشرة آلاف ، وقد جاءت الفرس معهم بأفيلة كثيرة ، عليها الجلاجل والنخل قائمة لتذعر خيول المسلمين ، فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة ، ومما تسمع من الجلاجل التي عليها ، ولا يثبت منها إلا القليل على قسر ، وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفيلة ، ورشقتهم الفرس بالنبل ، فنالوا منهم خلقا كثيرا ، وقتل المسلمون منهم مع ذلك ستة آلاف ، وأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة أولا ، فاحتوشوها فقتلوها عن آخرها ، وقد قدمت الفرس بين أيديهم فيلا عظيما أبيض ، فتقدم إليه أبو عبيد فنفخ مشفر الفيل بالسيف ، فخبطه الفيل .
وكان أبو عبيد لما رأى الفيل ، قال: ما هذا؟ ولم يكن رآه قط ، فقالوا: هذا الفيل ، فارتجز وقال:
يا لك من ذي أربع ما أكبرك . يا لك من يوم وغى ما أمكنك
إني لعال بالحسام مشفرك وهالك وفي الهلاك لي درك