الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ وقعة القرقس ] ويقال لها قس الناطف ، ويقال : المروحة أو وقعة جسر أبي عبيد والتي قتل فيها أمير المسلمين وخلق كثير منهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون

            لما رجع الجالنوس هاربا مما لقي من المسلمين تذامرت الفرس بينهم واجتمعوا إلى رستم ، فأرسل جيشا كثيفا عليهم ذو الحاجب بهمن جاذويه ، وأعطاه راية أفريدون ، وتسمى درفش كابيان ، وكانت الفرس تتيمن بها ، وحملوا معهم راية كسرى ، وكانت من جلود النمور ، عرضها ثمانية أذرع ، فنزل بقس الناطف . وأقبل أبو عبيد فنزل بالمروحة ، فرأت دومة - امرأته أم المختار ابنه - أن رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب ، فشرب أبو عبيد ومعه نفر ، فأخبرت بها أبا عبيد فقال : لهذه إن شاء الله شهادة ! وعهد إلى الناس فقال : إن قتلت فعلى الناس فلان ، فإن قتل فعليهم فلان ، حتى أمر الذين شربوا من الإناء ، ثم قال : فإن قتل فعلى الناس المثنى وبعث إليه بهمن جاذويه إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم . فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد : مرهم فليعبروا هم إلينا . فقال : ما هم بأجرأ على الموت منا . ثم اقتحم إليهم ، فاجتمعوا في مكان ضيق فالتقوا هنالك ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله ، والمسلمون في نحو من عشرة آلاف ، وقد جاءت الفرس معهم بأفيلة كثيرة ، عليها الجلاجل والنخل قائمة لتذعر خيول المسلمين ، فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة ، ومما تسمع من الجلاجل التي عليها ، ولا يثبت منها إلا القليل على قسر ، وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفيلة ، ورشقتهم الفرس بالنبل ، فنالوا منهم خلقا كثيرا ، وقتل المسلمون منهم مع ذلك ستة آلاف ، وأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة أولا ، فاحتوشوها فقتلوها عن آخرها ، وقد قدمت الفرس بين أيديهم فيلا عظيما أبيض ، فتقدم إليه أبو عبيد فنفخ مشفر الفيل بالسيف ، فخبطه الفيل .

            وكان أبو عبيد لما رأى الفيل ، قال: ما هذا؟ ولم يكن رآه قط ، فقالوا: هذا الفيل ، فارتجز وقال:


            يا لك من ذي أربع ما أكبرك . يا لك من يوم وغى ما أمكنك




            إني لعال بالحسام مشفرك     وهالك وفي الهلاك لي درك

            ثم ضربه على خرطومه فقطعه ووقع عليه الفيل فقتله . فحمل على الفيل خليفة أبي عبيد الذي كان أوصى أن يكون أميرا بعده فقتل ، ثم آخر ، ثم آخر ، حتى قتل سبعة من ثقيف كان قد نص أبو عبيد عليهم واحدا بعد واحد ، ثم صارت إلى المثنى بن حارثة بمقتضى الوصية أيضا ، وقد كانت دومة امرأة أبي عبيد رأت مناما يدل على ما وقع سواء بسواء ، فلما رأى المسلمون ذلك وهنوا عند ذلك ، ولم يكن بقي إلا الظفر بالفرس ، وضعف أمرهم ، وذهبت ريحهم ، وولوا مدبرين ، وساقت الفرس خلفهم يقتلون بشرا كثيرا ، وانكشف الناس ، فكان أمرا بليغا ، وجاءوا إلى الجسر ، فمر بعض الناس ، ثم انكسر الجسر ، فتحكم فيمن وراءه الفرس ، فقتلوا من المسلمين ، وغرق في الفرات نحو من أربعة آلاف . فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وسار المثنى بن حارثة ، فوقف عند الجسر الذي جاءوا منه ، وكان الناس لما انهزموا جعل بعضهم يلقي بنفسه في الفرات فيغرق ، فنادى المثنى : أيها الناس ، على هينتكم ، فإني واقف على فم الجسر لا أجوزه حتى لا يبقى منكم أحد ها هنا . فلما عدى الناس إلى الناحية الأخرى سار المثنى فنزل بهم أول منزل ، وقام يحرسهم هو وشجعان المسلمين ، وقد جرح أكثرهم وأثخنوا ، ومن الناس من ذهب في البرية لا يدرى أين ذهب ، ومنهم من رجع إلى المدينة النبوية مذعورا ، وذهب بالخبر عبد الله بن زيد بن عاصم المازني إلى عمر بن الخطاب ، فوجده على المنبر ، فقال له عمر : ما وراءك يا عبد الله بن زيد ؟ فقال : أتاك الخبر اليقين يا أمير المؤمنين . ثم صعد إليه المنبر فأخبره الخبر سرا ، ويقال : كان أول من قدم بخبر الناس عبد الله بن يزيد بن الحصين الخطمي . فالله أعلم - قال سيف بن عمر : وكانت هذه الوقعة في شعبان من سنة ثلاث عشرة بعد اليرموك بأربعين يوما . فالله أعلم - وتراجع المسلمون بعضهم إلى بعض ، وكان منهم من فر إلى المدينة ، وبلغ ، عمر الخبر فاشتد عليه ، وقال: لو أن أبا عبيد انحاز إلي لكنت له فئة . وقال للمنهزمين: أنا فئتكم . وأشغل الله المجوس بأمر ملكهم ; وذلك أن أهل المدائن عدوا على رستم فخلعوه ، ثم ولوه ، وأضافوا إليه الفيرزان ، واختلفوا على فرقتين ، فركب الفرس إلى المدائن ، ولحقهم المثنى بن حارثة في نفر من المسلمين ، فعارضه أميران من أمرائهم في جيشهم ، فأسرهما وأسر معهما بشرا كثيرا ، فضرب أعناقهم ، ثم أرسل المثنى إلى من بالعراق من أمراء المسلمين يستمدهم ، فبعثوا إليه بالأمداد ، وبعث إليه عمر بن الخطاب بمدد كثير ، فيهم جرير بن عبد الله البجلي في قومه بجيلة بكمالها ، وغيره من سادات المسلمين ، حتى كثر جيشه . وكان فيمن قتل بالجسر عقبة وعبد الله ابنا قيظى بن قيس ، وكانا شهدا أحدا ، وقتل معهما أخوهما عباد ، ولم يشهد معهما أحدا ، وقتل أيضا قيس بن السكن بن قيس أبو زيد الأنصاري ، وهو بدري لا عقب له ، وقتل يزيد بن قيس بن الحطيم الأنصاري ، شهد أحدا ، وفيها قتل أبو أمية الفزاري ، له صحبة ، والحكم بن مسعود أخو أبي عبيد ، وابنه جبر بن الحكم بن مسعود .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية