الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ليلة القادسية ] وأصبح الناس ليلة الهرير وتسمى ليلة القادسية من بين تلك الليالي وهم حسرى ، لم يغمضوا ليلتهم كلها . فسار القعقاع في الناس فقال : إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم ، فاصبروا ساعة واحملوا ، فإن النصر مع الصبر . فاجتمع إليهم جماعة من الرؤساء وصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح . فلما رأت ذلك القبائل قام فيها رؤساؤهم وقالوا : لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم ، ولا هؤلاء ، يعني الفرس ، أجرأ على الموت منكم . فحملوا فيما يليهم ، وخالطوا من بإزائهم ، فاقتتلوا حتى قام قائم الظهيرة ، فكان أول من زال الفيرزان والهرمزان ، فتأخرا وثبتا حيث انتهيا ، وانفرج القلب ، وركد عليهم النقع وهبت ريح عاصف فقلعت طيارة رستم عن سريره ، فهوت في العتيق ، وهي دبور ، ومال الغبار عليهم ، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به ، وقد قام رستم عنه حين أطارت الريح الطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال ، فهي واقفة ، فاستظل في ظل بغل وحمله ، وضرب هلال بن علفة الحمل الذي تحته رستم ، فقطع حباله ، ووقع عليه أحد العدلين ، ولا يراه هلال ولا يشعر به ، فأزال عن ظهره فقارا ، وضربه هلال ضربة فنفحت مسكا . ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه ، واقتحمه هلال عليه وأخذ برجليه ، ثم خرج به فضرب جبينه بالسيف حتى قتله ، ثم ألقاه بين أرجل البغال ، ثم صعد السرير وقال : قتلت رستم ورب الكعبة ! إلي إلي ! فأطافوا به وكبروا ، فنفله سعد سلبه ، وكان قد أصابه الماء ولم يظفر بقلنسوته ، ولو ظفر بها لكانت قيمتها مائة ألف .

            وقيل : إن هلالا لما قصد رستم رماه رستم بنشابة أثبت قدمه بالركاب ، فحمل عليه هلال فضربه فقتله ، ثم احتز رأسه وعلقه ونادى : قتلت رستم ! فانهزم قلب المشركين .

            وقام الجالينوس على الردم ، ونادى الفرس إلى العبور ، وأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق ، فوخزهم المسلمون برماحهم ، فما أفلت مخبر ، وهم ثلاثون ألفا . وأخذ ضرار بن الخطاب " درقش كابيان " ، وهو العلم الأكبر الذي كان للفرس ، فعوض منه ثلاثين ألفا ، وكانت قيمته ألف ألف ومائتي ألف . وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام قبله ، وقتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة ، وقتل ليلة الهرير ويوم القادسية ستة آلاف ، فدفنوا في الخندق حيال مشرق ، ودفن ما كان قبل ليلة الهرير على مشرق ، وجمعت الأسلاب والأموال فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده مثله .

            وأرسل سعد إلى هلال فسأله عن رستم ، فأحضره ، فقال : جرده إلا ما شئت . فأخذ سلبه فلم يدع عليه شيئا . اتباع المسلمين للفرس وأمر القعقاع ، وشرحبيل باتباعهم ، حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية ، وخرج زهرة بن الحوية التميمي في أثارهم ، في ثلاثمائة فارس ، ثم أدركه الناس فلحق المنهزمين والجالينوس يجمعهم ، فقتله زهرة وأخذ سلبه ، وقتلوا ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى النجف ، وعادوا من أثر المنهزمين ومعهم الأسرى ، فرئي شباب من النخع وهو يسوق ثمانين رجلا أسرى من الفرس .

            واستكثر سعد سلب الجالينوس ، فكتب فيه إلى عمر . فكتب عمر إلى سعد : تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بمثل ما صلي به ، وقد بقي عليك من حربك ما بقي ، تفسد قلبه ، أمض له سلبه وفضله على أصحابه عند عطائه بخمسمائة .

            ولما اتبع المسلمون الفرس كان الرجل يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله ، وربما أخذ سلاحه فقتله به ، وربما أمر رجلين فيقتل أحدهما صاحبه .

            ولحق سلمان بن ربيعة الباهلي ، وعبد الرحمن بن ربيعة بطائفة منهم قد نصبوا راية وقالوا : لا نبرح حتى نموت ، فقتلهم سلمان ومن معه . وكان قد ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة استحيوا من الفرار ، وقصدهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين ، لكل كتيبة منها رئيس . وكان قتال أهل الكتائب من الفرس على وجهين ، منهم من هرب ، ومنهم من ثبت حتى قتل ، وكان ممن هرب من أمراء الكتائب الهرمزان ، وكان بإزاء عطارد ، ومنهم أهوذ ، وكان بإزاء حنظلة بن الربيع ، وهو كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم زاد بن بهيش ، وكان بإزاء عاصم بن عمرو ، ومنهم قارن ، وكان بإزاء القعقاع ; وكان ممن ثبت وقتل شهريار بن كنارا ، وكان بإزاء سلمان بن ربيعة ، وابن الهربذ ، وكان بإزاء عبد الرحمن بن ربيعة ، والفرخان الأهوازي ، وكان بإزاء بسر بن أبي رهم الجهني ، ومنهم خشدسوم الهمذاني ، وكان بإزاء ابن الهذيل الكاهلي .

            وتراجع الناس من طلب المنهزمين ، وقد قتل مؤذنهم ، فتشاج المسلمون في الأذان حتى كادوا يقتتلون ، وأقرع سعد بينهم فخرج سهم رجل ، فأذن .

            تفضيل أهل البلاء من أهل القادسية في العطاء وفضل أهل البلاء من أهل القادسية عند العطاء بخمسمائة خمسمائة ، وهم خمسة وعشرون رجلا ، منهم : زهرة وعصمة الضبي والكلج ، وأما أهل الأيام قبلها فإنهم فرض لهم على ثلاثة آلاف ، فضلوا على أهل القادسية ، فقيل لعمر : لو ألحقت بهم أهل القادسية . فقال : لم أكن لألحق بهم من لم يدركهم . وقيل له : لو فضلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه . قال : كيف أفضل عليهم وهم شجن العدو ! فهلا فعل المهاجرون بالأنصار هذا !

            وكانت العرب تتوقع وقعة العرب وأهل فارس بالقادسية ، فيما بين العذيب إلى عدن أبين ، وفيما بين الأبلة وأيلة ، يرون أن ثبات ملكهم وزاوله بها ; وكانت في كل بلد مصيخة إليها ، تنظر ما يكون من أمرها . فلما كانت وقعة القادسية سارت بها الجن ، فأتت بها أناسا من الإنس ، فسبقت أخبار الإنس [ إليهم ] .

            كتاب سعد إلى عمر بن الخطاب بنصر القادسية كتب سعد إلى عمر بالفتح ، وبعدة من قتلوا ، وبعدة من أصيب من المسلمين - وسمى من يعرف - مع سعد بن عميلة الفزاري . وكان عمر يسأل الركبان من حين يصبح إلى انتصاف النهار عن أهل القادسية ، ثم يرجع إلى أهله ومنزله ، قال : فلما لقي البشير سأله من أين ؟ فأخبره ، قال : يا عبد الله حدثني . قال : هزم الله المشركين . وعمر يخب معه يسأله ، والآخر يسير على ناقته ، لا يعرفه حتى دخل المدينة ، وإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين ، قال البشير : هلا أخبرتني - رحمك الله - أنك أمير المؤمنين ! فقال عمر : لا بأس عليك يا أخي .

            وأقام المسلمون بالقادسية في انتظار قدوم البشير ، وأمر عمر الناس أن يقوموا على أقباضهم ، ويصلحوا أحوالهم ، ويتابع إليهم أهل الشام ممن شهد اليرموك ودمشق ممدين لهم ، وجاء أولهم يوم أغواث ، وآخرهم بعد الغد يوم الفتح ، فكتبوا فيهم إلى عمر يسألونه عما ينبغي أن يشار فيه مع نذير بن عمرو .

            وهذه وقعة القادسية قد ذكرنا أنها كانت سنة أربع عشرة .

            [وقال ابن إسحاق : كانت سنة خمس عشرة] .

            وقال الواقدي : سنة ست عشرة .

            قال ابن جرير : وهو الثبت عندنا

            التالي السابق


            الخدمات العلمية