والمدائن على جانبي دجلة شرقا وغربا ، ودجلة تشق بينهما ، وتسمى المدينة الشرقية العتيقة ، وفيها القصر الأبيض القديم الذي لا يدرى من بناه ، ويتصل بها المدينة التي كانت الملوك تنزلها ، وفيها الإيوان وتعرف بأسبانير . وأما المدينة الغربية فتسمى بهرسير ، وكان الإسكندر قد بنى بالمغرب الإسكندرية ، وبخراسان العليا سمرقند ومدينة الصغد ، وبخراسان السفلى مرو ، وهراة ، وجال في الأرض ، فلم يختر منزلا سوى المدائن فنزلها . وبنى بها مدينة عظيمة ، وجعل عليها سورا أثره باق إلى الآن ، وهي المدينة التي تسمى الرومية في جانب دجلة الشرقي ، وأقام الإسكندر بها ومات ، فحمل منها إلى الإسكندرية لمكان أمه . وكل الملوك اختاروا المدائن ، وإنما سميت المدائن لكثرة من بنى بها من الملوك الأكاسرة . والذي بنى الإيوان هو شابور بن هرمز المعروف بذي الأكتاف ، وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة . والمدائن التي هي مستقر ملك كسرى
وكان قدوم سعد إليها في ذي الحجة من سنة خمس عشرة ، واستهلت سنة ست عشرة وهو نازل عندها ، وقد بعث السرايا والخيول في كل وجه أمر عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص بالمسير إلى المدائن قال علماء السير: وعهد إليه أن يخلف النساء والعيال بالعتيق ، ويجعل معهم من يحرسهم من الجند ويسهم لأولئك الجند من المغنم ما داموا يحفظون عيال المسلمين ، فأقام سعد بعد الفتح شهرين بالقادسية ، ثم ارتحل بعد الفراغ من أمرها لأيام بقين من شوال ، ولقي جماعة من أصحابه جموعا من فارس يوم برس فهزموهم إلى بابل ، فلحقوهم فقتلوا منهم . أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص بعد القادسية بالمسير إلى المدائن ،
وأقام سعد ببابل أياما ثم جاء إلى كوثى ، وأتى المكان الذي حبس فيه إبراهيم عليه السلام ، وقدم سعد زهرة بن الحوية إلى بهرسير ، فتلقاه شيرزاد بساباط بالصلح وتأدية الجزية ، فبعثه إلى سعد ، فأمضاه ، ووصل سعد بالجنود إلى مكان يقال له : مظلم ساباط ، فوجدوا هنالك كتائب كثيرة لكسرى يسمونها بوران ، وهم يقسمون كل يوم : لا يزول ملك فارس ما عشنا . ومعهم أسد كبير لكسرى يقال له : المقرط . قد أرصدوه في طريق المسلمين ، فتقدم إليه ابن أخي سعد ، وهو هاشم بن عتبة ، فقتل الأسد والناس ينظرون ، وسمي يومئذ سيفه المتين ، وقبل سعد يومئذ رأس هاشم ، وقبل هاشم قدم سعد ، وحمل هاشم على الفرس ، فأزالهم عن أماكنهم وهزمهم وهو يتلو قوله تعالى : أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ إبراهيم : 44 ] وتحصنت العجم بيهرسير ، وامتنعت من سعد أشد الامتناع ، وقد بعث إليهم سعد سلمان الفارسي فدعاهم إلى الله ، عز وجل ، أو الجزية أو المقاتلة ، فأبوا إلا المقاتلة والعصيان ، ونصبوا المجانيق والدبابات ، وأمر سعد بعمل المجانيق ، فعملت عشرون منجنيقا ، ونصبت على بهرسير ، واشتد الحصار
وحصروهم شهرين حتى أكلوا الكلاب والسنانير ، وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنيات المشرفة على دجلة لقتال المسلمين فلا يقومون لهم ، [ثم تجردوا يوما للحرب ، فقاتلهم المسلمون فلم يثبتوا لهم] ، فنزلوا ، ووقع سهم في زهير بن الحياة ، فقال زهرة: أخرجوه ، فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دام في لعلي أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة ، فمضى نحو العدو ، فضرب بسيفه شهربراز فقتله ، ثم أحيط به فقتل .
كل هذا وملكهم متحصن في مدينة ، فبعث إلى المسلمين رسولا يقول لهم: إن الملك يقول لكم: هل لكم في المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة وجبلنا ، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم . فكلمه الأسود بن قطبة بكلمات فولى فقيل له: ما قلت له؟ قال: والله ما أدري ، وإنما هي كلمات جرت على لساني .
فخرج من القوم رجل يستأمن ، فأمنوه ، فقال: والله ما بقي في المدينة أحد فما يمنعكم ، فتسورها الرجال وقالوا له: لأي شيء هربوا؟ فقال: بعث الملك يعرض عليكم الصلح فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينك صلح حتى نأكل من عسل أفريذين بأترج كوثى .
فلما دخل سعد والمسلمون بهرسير -وهي المدينة الدنيا- طلبوا السفن ليعبروا إلى المدينة القصوى ، وهي المدائن ، فلم يقدروا على شيء ووجدوا القوم قد ضموا السفن ولاح للمسلمين الأبيض ، فكبروا وقالوا: هذا أبيض كسرى ، هذا ما وعد الله ورسوله .
فأقاموا ببهرسير أياما من صفر ، ثم جاء أعلاج ، فدلوهم على مخاضة ، فتردد سعد في ذلك ، ثم فاجأهم المد ، فرأى رؤيا ، أن خيول المسلمين قد اقتحمت ، فعبرت ، فقال للناس: إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم ، فقالوا: عزم الله لنا ولك على الرشد ، فافعل .
وأتى بعض العلوج فقال لسعد: إن أقمت ثلاثا ذهب يزدجرد بكل شيء من المدائن ، فهيجه على العبور .
العبور إلى المدائن فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر ; فلا تخلصون إليه معه ، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا فيناوشونكم في سفنهم ، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه ، وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا ، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم . فقالوا جميعا : عزم الله لنا ولك على الرشد ، فافعل . فعند ذلك ندب سعد الناس إلى العبور فأمر سعد عليهم عاصم بن عمرو ، فوقفوا على حافة دجلة ، فقال عاصم : من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولا في هذا البحر ، فنحمي الفراض من الجانب الآخر ؟ فانتدب له ستون من الشجعان المذكورين ; والأعاجم وقوف صفوفا من الجانب الآخر ؟ فتقدم رجل من المسلمين وقد أحجم الناس عن الخوض في دجلة ، فقال : أتخافون من هذه النطفة ؟ ثم تلا قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ آل عمران 145 ] . ثم أقحم فرسه فيها واقتحم الناس ، وقد افترق الستون فرقتين : أصحاب الخيل الذكور ، وأصحاب الخيل الإناث ، فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا : ديوانا ديوانا . يقولون : مجانين مجانين . ثم قالوا : والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا . ثم أرسلوا فرسانا منهم في الماء يلتقون أول المسلمين ليمنعوهم من الخروج من الماء ، فأمر عاصم بن عمرو أصحابه أن يشرعوا لهم الرماح ويتوخوا الأعين ، ففعلوا ذلك بالفرس فقلعوا عيون خيولهم ، فرجعوا أمام المسلمين لا يملكون كف خيولهم حتى خرجوا من الماء ، واتبعهم عاصم وأصحابه فساقوا وراءهم حتى طردوهم عن الجانب الآخر ، ووقفوا على حافة الدجلة من الجانب الآخر ، ونزل بقية أصحاب عاصم من الستمائة في دجلة ، فخاضوها ، حتى وصلوا إلى أصحابهم من الجانب الآخر ، فقاتلوا مع أصحابهم حتى نفوا الفرس عن ذلك الجانب . وكانوا يسمون الكتيبة الأولى كتيبة الأهوال ، وأميرها عاصم بن عمرو ، والكتيبة الثانية الكتيبة الخرساء ، وأميرها القعقاع بن عمرو . وهذا كله وسعد والمسلمون ينظرون إلى ما يصنع هؤلاء الفرسان بالفرس ، وسعد واقف على شاطئ دجلة . ثم نزل سعد ببقية الجيش ، وذلك حين نظروا إلى الجانب الآخر وقد تحصن بمن حصل فيه من الفرسان المسلمين ، وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا : نستعين بالله ، ونتوكل عليه ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ثم اقتحم بفرسه دجلة ، واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض ، حتى ملأوا ما بين الجانبين ، فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة ، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض ; وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن ، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره ، وتأييده ، ولأن أميرهم سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وقد توفي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهو عنه راض ، ودعا له ، فقال : اللهم أجب دعوته وسدد رميته
والمقطوع به أن سعدا دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر ، وقد رمى بهم في هذا اليم ، فسددهم الله وسلمهم ، فلم يفقد من المسلمين رجل واحد ، غير أن رجلا واحدا يقال له : غرقدة البارقي ، ذل عن فرس له شقراء ، فأخذ القعقاع بن عمرو بلجامها ، وأخذ بيد الرجل حتى عدله على فرسه ، وكان من الشجعان ، فقال : عجز النساء أن يلدن مثل القعقاع بن عمرو . ولم يعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل يقال له : مالك بن عامر . كانت علاقته رثة ، فأخذه الموج ، فدعا صاحبه الله ، عز وجل ، وقال : اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي . فرده الموج إلى الجانب الذي يقصدونه ، فأخذه الناس ثم ردوه على صاحبه بعينه . وكان الفرس إذا أعيا وهو في الماء ، يقيض الله له مثل النشز المرتفع ، فيقف عليه فيستريح ، وحتى إن بعض الخيل ليسير وما يصل الماء إلى حزامها ، وكان يوما عظيما ، وأمرا هائلا ، وخطبا جليلا ، وخارقا باهرا ، ومعجزة لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، خلقها الله لأصحابه ، لم ير مثلها في تلك البلاد ، ولا في بقعة من البقاع سوى قضية العلاء بن الحضرمي المتقدمة ، بل هذا أجل وأعظم ; فإن هذا الجيش كان أضعاف ذلك . قالوا : وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي فجعل سعد يقول : حسبنا الله ونعم الوكيل ، والله لينصرن الله وليه ، وليظهرن الله دينه ، وليهزمن الله عدوه ، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات . فقال له سلمان : إن الإسلام جديد ، ذللت لهم والله البحور ، كما ذلل لهم البر ، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا أفواجا . فخرجوا منه كما قال سلمان ، لم يغرق منهم أحد ، ولم يفقدوا شيئا . فلما رأى العدو ذلك هربوا لا يلوون على شيء ، وجعلوا يقولون: إنما تقاتلون الجن لا الإنس ، وتركوا جمهور أموالهم ، وكان في بيوت الأموال ثلاثة ألف ألف ، فأخذوا نصف ذلك وهربوا وتركوا [الباقي ، وخرجوا من المتاع بما يقدرون عليه ، وتركوا] من الثياب والمتاع والأواني ، وما أعدوا للحصار من البقر والغنم والطعام ما لا يحصى قيمته . وكان يزدجرد قد أخرج عياله إلى حلوان ، فلحق بعياله ، فدخل المسلمون المدائن وليس فيها أحد إلا أنه قد بقي في القصر الأبيض قوم قد تحصنوا به ، فعرض عليهم المسلمون الإسلام أو الجزية أو القتل ، فاختاروا الجزية .
ونزل سعد القصر الأبيض ، واتخذ الإيوان مصلى ، وجعل يقرأ: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين وأتم الصلاة ، ثم دخلها لأنه كان على نية الإقامة ، وصلى الجمعة ، وكانت أول جمعة جمعت بالعراق جمعة المدائن .
عن جابر بن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال: وعن أيوب بن طهمان ]: "ليفتتحن رهط من المسلمين كنز كسرى الذي في الأبيض" . فكنت أنا وأبي منهم ، فأصبنا من ذلك ألفي درهم .
أنه رأى علي] بن أبي طالب رضي الله عنه حين دخل الإيوان بالمدائن أمر بالتماثيل التي في القبلة فقطع رؤوسها ثم صلى فيها . وقيل أنه لما سار المسلمون وراءهم أدرك رجل من المسلمين فارسيا يحمي أصحابه ، فضرب فرسه ليقدم على المسلم ، فأحجم وأراد الفرار فتقاعس ، فأدركه المسلم فقتله وأخذ سلبه .
وأدرك رجل آخر من المسلمين جماعة من الفرس يتلاومون ، وقد نصبوا لأحدهم كرة ، وهو يرميها لا يخطئها ، فرجعوا فلقيهم المسلم ، فتقدم إليه ذلك الفارسي فرماه بأقرب مما كانت الكرة فلم يصبه ، فوصل المسلم إليه فقتله وهرب أصحابه . قال علماء السير: وقسم سعد الفيء بعد ما خمسه ، فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا ، وقسم دور المدائن بين الناس ، وبعث إلى العيالات فأنزلوهم إياها ، وأقاموا بالمدائن حين فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل ، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد . ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها
وبعث سعد في آثار القوم زهرة في جماعة ، وأمره أن يبلغ جسر النهروان ، فبلغوا هناك ثم رجعوا ، ومضى المشركون نحو حلوان .
فعن ابن الرفيل ] ، عن أبيه الرفيل ، قال: خرج زهرة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان وهم عليه ، فازدحموا عليه ، فوقع بغل في الماء ، فكلبوا عليه ، فقال زهرة: إني أقسم بالله أن لهذا البغل لشأنا ، وإلا ما كان القوم كلبوا عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك [إلا لشيء بعد ما أرادوا تركه] ، وإذا الذي عليه حلية كسرى وثيابه وخرزاته ووشاحه ، ودرعه التي كان فيه الجوهر ، وكان يجلس فيها للمباهاة ، وترجل زهرة يومئذ حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه بالبغل فاحتملوه ، فأخرجوه فجاءوا بما عليه حتى ردوه إلى الأقباض ، ما يدرون ما عليه .
وعن حبيب بن صهبان ، قال: دخلنا المدائن فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص ، فما حسبناها إلا طعاما ، فإذا هي آنية الذهب والفضة ، فقسمت بعد في الناس .
[وقال حبيب ]: وقد رأيت الرجل يطوف ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير ، فما حسبناه إلا ملحا ، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته في الخبز .
وعن عصمة بن الحارث الضبي ، قال:
خرجت فيمن خرج يطلب ، فإذا حمار معه حمار ، فلما رآني حثه حتى لحق بآخر قدامه ، فحثا حماريهما ، فانتهيا إلى جدول قد كسر جسره ، فأتيتهما فقتلت واحدا منهما وأفلت الآخر ، فرجعت إلى الحمارين ، فأتيت بهما صاحب الأقباض ، فنظر ما عليهما فإذا على أحدهما سفطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج فضة ، على ثغره ولببه الياقوت والزمرد منظوم على الفضة ، ولجام كذلك ، وفارس من فضة مكلل بالجوهر ، وإذا في الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ، ولها زمام من ذهب ، وكل ذلك منظوم بالياقوت ، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر كان كسرى يضعهما على أسطوانة التاج .
وعن أبي عبيدة العنبري ، قال: لما هبط المسلمون المدائن ، وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بحق معه ، فدفعه إلى صاحب الأقباض ، فقال الذي معه: ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه ، فقالوا له: هل أخذت منه شيئا ، فقال: أما والله ، لولا الله ما أتيتكم به ، فعرفوا أن للرجل شأنا ، فقالوا: من أنت؟ فقال: والله ما أخبركم لتحمدوني ، ولا غيركم ليقرظوني ، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه . فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه ، فسأل عنه ، فإذا هو عامر بن عبد قيس .
وعن جابر بن عبد الله ، قال: والله الذي لا إله إلا هو ، ما أطلعنا على أحد من أهل القادسية ، أنه يريد الدنيا مع الآخرة ، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر ، فما رأينا كما هجمنا عليه من أمانتهم وزهدهم:
طليحة بن خويلد ، وعمرو بن معديكرب ، وقيس بن المكشوح .
وعن مخلد بن قيس العجلي ، عن أبيه ، ] قال: لما قدم بسيف كسرى ومنطقته على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال: فقال علي رضي الله عنه: إنك عففت فعفت الرعية . [وقال: وحدثنا سيف] ، عن محمد وطلحة وزياد والمهلب ، قالوا: جمع سعد الخمس ، وأدخل فيه كل شيء أراد أن يعجب به عمر ، من ثياب كسرى وحليه وسيفه ونحو ذلك ، وفضل بعد القسم بين الناس. إن أقواما أدوا هذا لذوو أمانة ،
وعن عبد الملك بن عمير ، قال: أصاب المسلمون يوم المدائن بهار كسرى ، وكانوا يعدونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين ، فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه ، فكأنهم في رياض وكان بساط واحد ستين ذراعا في ستين ، أرضه مذهب ، ووشيه بفصوص ، ومموه بجوهر ، وورقه بحرير ، وماؤه ذهب ، وكانت العرب تسميه القطف ، فلما قسم سعد فيهم فضل عنهم ولم يتفق قسمه ، فجمع سعد المسلمين ، فقال: إن الله تعالى قد ملأ أيديكم وقد عسر قسم هذا البساط ، ولا يقوى على شرائه أحد ، فأرى أن تطيبوا به أنفسنا لأمير المؤمنين يضعه حيث شاء ، ففعلوا .
فلما قدم على عمر المدينة جمع الناس فاستشارهم في البساط ، فمن بين مشير بقبضه ، وآخر مفوض إليه ، وآخر مرقق ، فقام علي رضي الله عنه ، فقال: لم تجعل علمك جهلا ، ويقينك شكا ، إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت ، أو لبست فأبليت ، أو أكلت فأفنيت ، فقال: صدقتني ، فقطعه فقسمه بين الناس ، فأصاب عليا رضي الله عنه قطعة منه فباعها بعشرين ألفا ، وما هي بأجود تلك القطع .
وعن القاسم بن سهل النوشجاني : إن ستر باب الإيوان أخرقه المسلمون لما افتتحوا المدائن ، فأخرجوا منه ألف ألف مثقال ذهبا ، فبيع المثقال بعشرة دراهم ، فبلغ عشرة آلاف ألف [ألف] درهم .
قال]: أبو بكر بن عياش : لما خرج علي بن أبي طالب إلى صفين ، مر بخراب ، فتمثل رجل من أصحابه:
جرت الرياح على محل ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد وإذا النعيم وكل ما يلهى به
يوما يصير إلى بلى ونفاذ
كم تركوا من جنات وعيون [ وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها ] قوما آخرين إن هؤلاء [القوم] كانوا وارثين فأصبحوا موروثين ، وإن هؤلاء [القوم] استحلوا الحرام فحلت بهم النقم [فلا تستحلوا الحرام فتحل بكم النقم] . وعن السائب بن الأقرع:
أنه كان جالسا في إيوان كسرى ، فنظر إلى تمثال يشير بأصبعه إلى موضع قال: فوقع في روعي أنه يشير إلى كنز ، قال: فاحتفرت ذلك الموضع ، فاستخرجت كنزا عظيما ، فكتبت إلى عمر أخبره ، فكتب إن هذا شيء أفاءه الله عليه دون المسلمين .
قال فكتب إليه عمر: إنك أمير من أمراء المسلمين ، فاقسمه بين المسلمين .
وعن أحمد بن إسماعيل ، قال:
لما صارت الخلافة إلى المنصور هم بنقض [إيوان المدائن] ، فاستشار جماعة من أصحابه ، فكلهم أشار بمثل ما هم به ، وكان معه كاتب من الفرس ، فاستشاره في ذلك ، فقال له: يا أمير المؤمنين ، أتعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج من تلك القرية ، وكان له بها مثل ذلك المنزل ولأصحابه مثل تلك الحجر ، فخرج أصحاب ذلك الرسول حتى جاءوا مع ضعفهم إلى صاحب هذا الإيوان مع عزته وصعوبة أمره ، فغلبوه وأخذوه من يده قسرا ، ثم قتلوه فيجيء الجائي من أقاصي الأرض ، فينظر إلى تلك المدينة وإلى هذا الإيوان ، [ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هذا الإيوان] ، فلا يشك أنه بأمر الله ، وأنه هو الذي أيده وكان معه ومع أصحابه ، وفي تركه فخر لكم . فاستغشه المنصور واتهمه لقرابته من القوم ، ثم بعث في نقض الإيوان ، فنقض منه الشيء اليسير ، ثم كتب إليه: إننا نغرم في نقضه أكثر مما نسترجع منه ، إن هذا تلف الأموال وذهابها . فدعا الكاتب فاستشاره فيما كتب إليه به ، فقال: لقد كنت أشرت بشيء لم تقبل مني ، فأما الآن فإني آنف لكم أن يكونوا أولئك يبنون بناء تعجزون أنتم عن هدمه ، والصواب أن تبلغ به الماء ، ففكر المنصور فعلم أنه قد صدق ، فإذا هدمه يتلف الأموال ، فأمر بالإمساك عنه . إعطاء عمر بن الخطاب سراقة بن مالك ثياب وأساور كسرى قال الحافظ أبو بكر البيهقي في " دلائل النبوة " أن عمر بن الخطاب أتي بفروة كسرى فوضعت بين يديه وفي القوم سراقة بن مالك بن جعشم ، قال : فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز فجعلهما في يديه ، فبلغا منكبيه ، فلما رآهما في يدي سراقة قال : الحمد لله ، سواري كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك بن جعشم ، أعرابي من بني مدلج . ثم حكى عن الشافعي أنه قال : وإنما ألبسهما سراقة ; لأن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال لسراقة ونظر إلى ذراعيه : كأني بك وقد لبست سواري كسرى
وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، قال : بعث سعد بن أبي وقاص ، أيام القادسية إلى عمر بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخفيه ، قال : فنظر عمر في وجوه القوم ، فكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا سراق قم فالبس . قال سراقة : فطمعت فيه فقمت فلبست . فقال : أدبر . فأدبرت ، ثم قال : أقبل . فأقبلت ، ثم قال : بخ بخ ، أعيرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه ، رب يوم يا سراق بن مالك ، لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى ، كان شرفا لك ولقومك ، انزع . فنزعت ، فقال : اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك ، وكان أحب إليك مني ، وأكرم عليك مني ، ومنعته أبا بكر ، وكان أحب إليك مني ، وأكرم عليك مني ، وأعطيتنيه ، فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي . ثم بكى حتى رحمه من كان عنده . ثم قال لعبد الرحمن بن عوف : أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي .
وذكر سيف بن عمر التميمي أن عمر حين ملك تلك الملابس والجواهر ، جيء بسيف كسرى ومعه عدة سيوف ; منها سيف النعمان بن المنذر نائب كسرى على الحيرة وأن عمر قال : الحمد لله الذي جعل سيف كسرى فيما يضره ولا ينفعه . ثم قال : إن قوما أدوا هذا لذووا أمانة . ثم قال : إن كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتي عن آخرته ، فجمع لزوج امرأته أو زوج ابنته ، ولم يقدم لنفسه ، ولو قدم لنفسه ووضع الفضول مواضعها لحصل له .
شعر في فتح المدائن وقد قال بعض المسلمين ، وهو أبو بجيد نافع بن الأسود ، في ذلك :
وأملنا على المدائن خيلا بحرها مثل برهن أريضا
فانتثلنا خزائن المرء كسرى يوم ولوا وحاص منا جريضا