الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فتح مدينة بهرسير

            والمدائن التي هي مستقر ملك كسرى والمدائن على جانبي دجلة شرقا وغربا ، ودجلة تشق بينهما ، وتسمى المدينة الشرقية العتيقة ، وفيها القصر الأبيض القديم الذي لا يدرى من بناه ، ويتصل بها المدينة التي كانت الملوك تنزلها ، وفيها الإيوان وتعرف بأسبانير . وأما المدينة الغربية فتسمى بهرسير ، وكان الإسكندر قد بنى بالمغرب الإسكندرية ، وبخراسان العليا سمرقند ومدينة الصغد ، وبخراسان السفلى مرو ، وهراة ، وجال في الأرض ، فلم يختر منزلا سوى المدائن فنزلها . وبنى بها مدينة عظيمة ، وجعل عليها سورا أثره باق إلى الآن ، وهي المدينة التي تسمى الرومية في جانب دجلة الشرقي ، وأقام الإسكندر بها ومات ، فحمل منها إلى الإسكندرية لمكان أمه . وكل الملوك اختاروا المدائن ، وإنما سميت المدائن لكثرة من بنى بها من الملوك الأكاسرة . والذي بنى الإيوان هو شابور بن هرمز المعروف بذي الأكتاف ، وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة .

            وكان قدوم سعد إليها في ذي الحجة من سنة خمس عشرة ، واستهلت سنة ست عشرة وهو نازل عندها ، وقد بعث السرايا والخيول في كل وجه أمر عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص بالمسير إلى المدائن قال علماء السير: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص بعد القادسية بالمسير إلى المدائن ، وعهد إليه أن يخلف النساء والعيال بالعتيق ، ويجعل معهم من يحرسهم من الجند ويسهم لأولئك الجند من المغنم ما داموا يحفظون عيال المسلمين ، فأقام سعد بعد الفتح شهرين بالقادسية ، ثم ارتحل بعد الفراغ من أمرها لأيام بقين من شوال ، ولقي جماعة من أصحابه جموعا من فارس يوم برس فهزموهم إلى بابل ، فلحقوهم فقتلوا منهم .

            وأقام سعد ببابل أياما ثم جاء إلى كوثى ، وأتى المكان الذي حبس فيه إبراهيم عليه السلام ، وقدم سعد زهرة بن الحوية إلى بهرسير ، فتلقاه شيرزاد بساباط بالصلح وتأدية الجزية ، فبعثه إلى سعد ، فأمضاه ، ووصل سعد بالجنود إلى مكان يقال له : مظلم ساباط ، فوجدوا هنالك كتائب كثيرة لكسرى يسمونها بوران ، وهم يقسمون كل يوم : لا يزول ملك فارس ما عشنا . ومعهم أسد كبير لكسرى يقال له : المقرط . قد أرصدوه في طريق المسلمين ، فتقدم إليه ابن أخي سعد ، وهو هاشم بن عتبة ، فقتل الأسد والناس ينظرون ، وسمي يومئذ سيفه المتين ، وقبل سعد يومئذ رأس هاشم ، وقبل هاشم قدم سعد ، وحمل هاشم على الفرس ، فأزالهم عن أماكنهم وهزمهم وهو يتلو قوله تعالى : أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ إبراهيم : 44 ] وتحصنت العجم بيهرسير ، وامتنعت من سعد أشد الامتناع ، وقد بعث إليهم سعد سلمان الفارسي فدعاهم إلى الله ، عز وجل ، أو الجزية أو المقاتلة ، فأبوا إلا المقاتلة والعصيان ، ونصبوا المجانيق والدبابات ، وأمر سعد بعمل المجانيق ، فعملت عشرون منجنيقا ، ونصبت على بهرسير ، واشتد الحصار

            وحصروهم شهرين حتى أكلوا الكلاب والسنانير ، وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنيات المشرفة على دجلة لقتال المسلمين فلا يقومون لهم ، [ثم تجردوا يوما للحرب ، فقاتلهم المسلمون فلم يثبتوا لهم] ، فنزلوا ، ووقع سهم في زهير بن الحياة ، فقال زهرة: أخرجوه ، فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دام في لعلي أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة ، فمضى نحو العدو ، فضرب بسيفه شهربراز فقتله ، ثم أحيط به فقتل .

            كل هذا وملكهم متحصن في مدينة ، فبعث إلى المسلمين رسولا يقول لهم: إن الملك يقول لكم: هل لكم في المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة وجبلنا ، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم . فكلمه الأسود بن قطبة بكلمات فولى فقيل له: ما قلت له؟ قال: والله ما أدري ، وإنما هي كلمات جرت على لساني .

            فخرج من القوم رجل يستأمن ، فأمنوه ، فقال: والله ما بقي في المدينة أحد فما يمنعكم ، فتسورها الرجال وقالوا له: لأي شيء هربوا؟ فقال: بعث الملك يعرض عليكم الصلح فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينك صلح حتى نأكل من عسل أفريذين بأترج كوثى .

            فلما دخل سعد والمسلمون بهرسير -وهي المدينة الدنيا- طلبوا السفن ليعبروا إلى المدينة القصوى ، وهي المدائن ، فلم يقدروا على شيء ووجدوا القوم قد ضموا السفن ولاح للمسلمين الأبيض ، فكبروا وقالوا: هذا أبيض كسرى ، هذا ما وعد الله ورسوله .

            فأقاموا ببهرسير أياما من صفر ، ثم جاء أعلاج ، فدلوهم على مخاضة ، فتردد سعد في ذلك ، ثم فاجأهم المد ، فرأى رؤيا ، أن خيول المسلمين قد اقتحمت ، فعبرت ، فقال للناس: إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم ، فقالوا: عزم الله لنا ولك على الرشد ، فافعل .

            وأتى بعض العلوج فقال لسعد: إن أقمت ثلاثا ذهب يزدجرد بكل شيء من المدائن ، فهيجه على العبور .

            العبور إلى المدائن فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر ; فلا تخلصون إليه معه ، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا فيناوشونكم في سفنهم ، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه ، وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا ، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم . فقالوا جميعا : عزم الله لنا ولك على الرشد ، فافعل . فعند ذلك ندب سعد الناس إلى العبور فأمر سعد عليهم عاصم بن عمرو ، فوقفوا على حافة دجلة ، فقال عاصم : من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولا في هذا البحر ، فنحمي الفراض من الجانب الآخر ؟ فانتدب له ستون من الشجعان المذكورين ; والأعاجم وقوف صفوفا من الجانب الآخر ؟ فتقدم رجل من المسلمين وقد أحجم الناس عن الخوض في دجلة ، فقال : أتخافون من هذه النطفة ؟ ثم تلا قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ آل عمران 145 ] . ثم أقحم فرسه فيها واقتحم الناس ، وقد افترق الستون فرقتين : أصحاب الخيل الذكور ، وأصحاب الخيل الإناث ، فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا : ديوانا ديوانا . يقولون : مجانين مجانين . ثم قالوا : والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا . ثم أرسلوا فرسانا منهم في الماء يلتقون أول المسلمين ليمنعوهم من الخروج من الماء ، فأمر عاصم بن عمرو أصحابه أن يشرعوا لهم الرماح ويتوخوا الأعين ، ففعلوا ذلك بالفرس فقلعوا عيون خيولهم ، فرجعوا أمام المسلمين لا يملكون كف خيولهم حتى خرجوا من الماء ، واتبعهم عاصم وأصحابه فساقوا وراءهم حتى طردوهم عن الجانب الآخر ، ووقفوا على حافة الدجلة من الجانب الآخر ، ونزل بقية أصحاب عاصم من الستمائة في دجلة ، فخاضوها ، حتى وصلوا إلى أصحابهم من الجانب الآخر ، فقاتلوا مع أصحابهم حتى نفوا الفرس عن ذلك الجانب . وكانوا يسمون الكتيبة الأولى كتيبة الأهوال ، وأميرها عاصم بن عمرو ، والكتيبة الثانية الكتيبة الخرساء ، وأميرها القعقاع بن عمرو . وهذا كله وسعد والمسلمون ينظرون إلى ما يصنع هؤلاء الفرسان بالفرس ، وسعد واقف على شاطئ دجلة . ثم نزل سعد ببقية الجيش ، وذلك حين نظروا إلى الجانب الآخر وقد تحصن بمن حصل فيه من الفرسان المسلمين ، وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا : نستعين بالله ، ونتوكل عليه ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ثم اقتحم بفرسه دجلة ، واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض ، حتى ملأوا ما بين الجانبين ، فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة ، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض ; وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن ، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره ، وتأييده ، ولأن أميرهم سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وقد توفي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهو عنه راض ، ودعا له ، فقال : اللهم أجب دعوته وسدد رميته

            والمقطوع به أن سعدا دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر ، وقد رمى بهم في هذا اليم ، فسددهم الله وسلمهم ، فلم يفقد من المسلمين رجل واحد ، غير أن رجلا واحدا يقال له : غرقدة البارقي ، ذل عن فرس له شقراء ، فأخذ القعقاع بن عمرو بلجامها ، وأخذ بيد الرجل حتى عدله على فرسه ، وكان من الشجعان ، فقال : عجز النساء أن يلدن مثل القعقاع بن عمرو . ولم يعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل يقال له : مالك بن عامر . كانت علاقته رثة ، فأخذه الموج ، فدعا صاحبه الله ، عز وجل ، وقال : اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي . فرده الموج إلى الجانب الذي يقصدونه ، فأخذه الناس ثم ردوه على صاحبه بعينه . وكان الفرس إذا أعيا وهو في الماء ، يقيض الله له مثل النشز المرتفع ، فيقف عليه فيستريح ، وحتى إن بعض الخيل ليسير وما يصل الماء إلى حزامها ، وكان يوما عظيما ، وأمرا هائلا ، وخطبا جليلا ، وخارقا باهرا ، ومعجزة لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، خلقها الله لأصحابه ، لم ير مثلها في تلك البلاد ، ولا في بقعة من البقاع سوى قضية العلاء بن الحضرمي المتقدمة ، بل هذا أجل وأعظم ; فإن هذا الجيش كان أضعاف ذلك . قالوا : وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي فجعل سعد يقول : حسبنا الله ونعم الوكيل ، والله لينصرن الله وليه ، وليظهرن الله دينه ، وليهزمن الله عدوه ، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات . فقال له سلمان : إن الإسلام جديد ، ذللت لهم والله البحور ، كما ذلل لهم البر ، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا أفواجا . فخرجوا منه كما قال سلمان ، لم يغرق منهم أحد ، ولم يفقدوا شيئا . فلما رأى العدو ذلك هربوا لا يلوون على شيء ، وجعلوا يقولون: إنما تقاتلون الجن لا الإنس ، وتركوا جمهور أموالهم ، وكان في بيوت الأموال ثلاثة ألف ألف ، فأخذوا نصف ذلك وهربوا وتركوا [الباقي ، وخرجوا من المتاع بما يقدرون عليه ، وتركوا] من الثياب والمتاع والأواني ، وما أعدوا للحصار من البقر والغنم والطعام ما لا يحصى قيمته . وكان يزدجرد قد أخرج عياله إلى حلوان ، فلحق بعياله ، فدخل المسلمون المدائن وليس فيها أحد إلا أنه قد بقي في القصر الأبيض قوم قد تحصنوا به ، فعرض عليهم المسلمون الإسلام أو الجزية أو القتل ، فاختاروا الجزية .

            ونزل سعد القصر الأبيض ، واتخذ الإيوان مصلى ، وجعل يقرأ: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين وأتم الصلاة ، ثم دخلها لأنه كان على نية الإقامة ، وصلى الجمعة ، وكانت أول جمعة جمعت بالعراق جمعة المدائن .

            عن جابر بن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال: "ليفتتحن رهط من المسلمين كنز كسرى الذي في الأبيض" . فكنت أنا وأبي منهم ، فأصبنا من ذلك ألفي درهم . وعن أيوب بن طهمان ]:

            أنه رأى علي] بن أبي طالب رضي الله عنه حين دخل الإيوان بالمدائن أمر بالتماثيل التي في القبلة فقطع رؤوسها ثم صلى فيها . وقيل أنه لما سار المسلمون وراءهم أدرك رجل من المسلمين فارسيا يحمي أصحابه ، فضرب فرسه ليقدم على المسلم ، فأحجم وأراد الفرار فتقاعس ، فأدركه المسلم فقتله وأخذ سلبه .

            وأدرك رجل آخر من المسلمين جماعة من الفرس يتلاومون ، وقد نصبوا لأحدهم كرة ، وهو يرميها لا يخطئها ، فرجعوا فلقيهم المسلم ، فتقدم إليه ذلك الفارسي فرماه بأقرب مما كانت الكرة فلم يصبه ، فوصل المسلم إليه فقتله وهرب أصحابه . ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها قال علماء السير: وقسم سعد الفيء بعد ما خمسه ، فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا ، وقسم دور المدائن بين الناس ، وبعث إلى العيالات فأنزلوهم إياها ، وأقاموا بالمدائن حين فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل ، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد .

            وبعث سعد في آثار القوم زهرة في جماعة ، وأمره أن يبلغ جسر النهروان ، فبلغوا هناك ثم رجعوا ، ومضى المشركون نحو حلوان .

            فعن ابن الرفيل ] ، عن أبيه الرفيل ، قال: خرج زهرة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان وهم عليه ، فازدحموا عليه ، فوقع بغل في الماء ، فكلبوا عليه ، فقال زهرة: إني أقسم بالله أن لهذا البغل لشأنا ، وإلا ما كان القوم كلبوا عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك [إلا لشيء بعد ما أرادوا تركه] ، وإذا الذي عليه حلية كسرى وثيابه وخرزاته ووشاحه ، ودرعه التي كان فيه الجوهر ، وكان يجلس فيها للمباهاة ، وترجل زهرة يومئذ حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه بالبغل فاحتملوه ، فأخرجوه فجاءوا بما عليه حتى ردوه إلى الأقباض ، ما يدرون ما عليه .

            وعن حبيب بن صهبان ، قال: دخلنا المدائن فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص ، فما حسبناها إلا طعاما ، فإذا هي آنية الذهب والفضة ، فقسمت بعد في الناس .

            [وقال حبيب ]: وقد رأيت الرجل يطوف ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير ، فما حسبناه إلا ملحا ، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته في الخبز .

            وعن عصمة بن الحارث الضبي ، قال:

            خرجت فيمن خرج يطلب ، فإذا حمار معه حمار ، فلما رآني حثه حتى لحق بآخر قدامه ، فحثا حماريهما ، فانتهيا إلى جدول قد كسر جسره ، فأتيتهما فقتلت واحدا منهما وأفلت الآخر ، فرجعت إلى الحمارين ، فأتيت بهما صاحب الأقباض ، فنظر ما عليهما فإذا على أحدهما سفطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج فضة ، على ثغره ولببه الياقوت والزمرد منظوم على الفضة ، ولجام كذلك ، وفارس من فضة مكلل بالجوهر ، وإذا في الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ، ولها زمام من ذهب ، وكل ذلك منظوم بالياقوت ، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر كان كسرى يضعهما على أسطوانة التاج .

            وعن أبي عبيدة العنبري ، قال: لما هبط المسلمون المدائن ، وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بحق معه ، فدفعه إلى صاحب الأقباض ، فقال الذي معه: ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه ، فقالوا له: هل أخذت منه شيئا ، فقال: أما والله ، لولا الله ما أتيتكم به ، فعرفوا أن للرجل شأنا ، فقالوا: من أنت؟ فقال: والله ما أخبركم لتحمدوني ، ولا غيركم ليقرظوني ، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه . فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه ، فسأل عنه ، فإذا هو عامر بن عبد قيس .

            وعن جابر بن عبد الله ، قال: والله الذي لا إله إلا هو ، ما أطلعنا على أحد من أهل القادسية ، أنه يريد الدنيا مع الآخرة ، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر ، فما رأينا كما هجمنا عليه من أمانتهم وزهدهم:

            طليحة بن خويلد ، وعمرو بن معديكرب ، وقيس بن المكشوح .

            وعن مخلد بن قيس العجلي ، عن أبيه ، ] قال: لما قدم بسيف كسرى ومنطقته على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال: إن أقواما أدوا هذا لذوو أمانة ، فقال علي رضي الله عنه: إنك عففت فعفت الرعية . [وقال: وحدثنا سيف] ، عن محمد وطلحة وزياد والمهلب ، قالوا: جمع سعد الخمس ، وأدخل فيه كل شيء أراد أن يعجب به عمر ، من ثياب كسرى وحليه وسيفه ونحو ذلك ، وفضل بعد القسم بين الناس.

            وعن عبد الملك بن عمير ، قال: أصاب المسلمون يوم المدائن بهار كسرى ، وكانوا يعدونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين ، فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه ، فكأنهم في رياض وكان بساط واحد ستين ذراعا في ستين ، أرضه مذهب ، ووشيه بفصوص ، ومموه بجوهر ، وورقه بحرير ، وماؤه ذهب ، وكانت العرب تسميه القطف ، فلما قسم سعد فيهم فضل عنهم ولم يتفق قسمه ، فجمع سعد المسلمين ، فقال: إن الله تعالى قد ملأ أيديكم وقد عسر قسم هذا البساط ، ولا يقوى على شرائه أحد ، فأرى أن تطيبوا به أنفسنا لأمير المؤمنين يضعه حيث شاء ، ففعلوا .

            فلما قدم على عمر المدينة جمع الناس فاستشارهم في البساط ، فمن بين مشير بقبضه ، وآخر مفوض إليه ، وآخر مرقق ، فقام علي رضي الله عنه ، فقال: لم تجعل علمك جهلا ، ويقينك شكا ، إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت ، أو لبست فأبليت ، أو أكلت فأفنيت ، فقال: صدقتني ، فقطعه فقسمه بين الناس ، فأصاب عليا رضي الله عنه قطعة منه فباعها بعشرين ألفا ، وما هي بأجود تلك القطع .

            وعن القاسم بن سهل النوشجاني : إن ستر باب الإيوان أخرقه المسلمون لما افتتحوا المدائن ، فأخرجوا منه ألف ألف مثقال ذهبا ، فبيع المثقال بعشرة دراهم ، فبلغ عشرة آلاف ألف [ألف] درهم .

            قال]: أبو بكر بن عياش : لما خرج علي بن أبي طالب إلى صفين ، مر بخراب ، فتمثل رجل من أصحابه:


            جرت الرياح على محل ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد     وإذا النعيم وكل ما يلهى به
            يوما يصير إلى بلى ونفاذ

            فقال علي رضي الله عنه: لا تقل هكذا ، ولكن قل [كما قال الله عز وجل]:

            كم تركوا من جنات وعيون [ وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها ] قوما آخرين إن هؤلاء [القوم] كانوا وارثين فأصبحوا موروثين ، وإن هؤلاء [القوم] استحلوا الحرام فحلت بهم النقم [فلا تستحلوا الحرام فتحل بكم النقم] . وعن السائب بن الأقرع:

            أنه كان جالسا في إيوان كسرى ، فنظر إلى تمثال يشير بأصبعه إلى موضع قال: فوقع في روعي أنه يشير إلى كنز ، قال: فاحتفرت ذلك الموضع ، فاستخرجت كنزا عظيما ، فكتبت إلى عمر أخبره ، فكتب إن هذا شيء أفاءه الله عليه دون المسلمين .

            قال فكتب إليه عمر: إنك أمير من أمراء المسلمين ، فاقسمه بين المسلمين .

            وعن أحمد بن إسماعيل ، قال:

            لما صارت الخلافة إلى المنصور هم بنقض [إيوان المدائن] ، فاستشار جماعة من أصحابه ، فكلهم أشار بمثل ما هم به ، وكان معه كاتب من الفرس ، فاستشاره في ذلك ، فقال له: يا أمير المؤمنين ، أتعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج من تلك القرية ، وكان له بها مثل ذلك المنزل ولأصحابه مثل تلك الحجر ، فخرج أصحاب ذلك الرسول حتى جاءوا مع ضعفهم إلى صاحب هذا الإيوان مع عزته وصعوبة أمره ، فغلبوه وأخذوه من يده قسرا ، ثم قتلوه فيجيء الجائي من أقاصي الأرض ، فينظر إلى تلك المدينة وإلى هذا الإيوان ، [ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هذا الإيوان] ، فلا يشك أنه بأمر الله ، وأنه هو الذي أيده وكان معه ومع أصحابه ، وفي تركه فخر لكم . فاستغشه المنصور واتهمه لقرابته من القوم ، ثم بعث في نقض الإيوان ، فنقض منه الشيء اليسير ، ثم كتب إليه: إننا نغرم في نقضه أكثر مما نسترجع منه ، إن هذا تلف الأموال وذهابها . فدعا الكاتب فاستشاره فيما كتب إليه به ، فقال: لقد كنت أشرت بشيء لم تقبل مني ، فأما الآن فإني آنف لكم أن يكونوا أولئك يبنون بناء تعجزون أنتم عن هدمه ، والصواب أن تبلغ به الماء ، ففكر المنصور فعلم أنه قد صدق ، فإذا هدمه يتلف الأموال ، فأمر بالإمساك عنه . إعطاء عمر بن الخطاب سراقة بن مالك ثياب وأساور كسرى قال الحافظ أبو بكر البيهقي في " دلائل النبوة " أن عمر بن الخطاب أتي بفروة كسرى فوضعت بين يديه وفي القوم سراقة بن مالك بن جعشم ، قال : فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز فجعلهما في يديه ، فبلغا منكبيه ، فلما رآهما في يدي سراقة قال : الحمد لله ، سواري كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك بن جعشم ، أعرابي من بني مدلج . ثم حكى عن الشافعي أنه قال : وإنما ألبسهما سراقة ; لأن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال لسراقة ونظر إلى ذراعيه : كأني بك وقد لبست سواري كسرى

            وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، قال : بعث سعد بن أبي وقاص ، أيام القادسية إلى عمر بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخفيه ، قال : فنظر عمر في وجوه القوم ، فكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا سراق قم فالبس . قال سراقة : فطمعت فيه فقمت فلبست . فقال : أدبر . فأدبرت ، ثم قال : أقبل . فأقبلت ، ثم قال : بخ بخ ، أعيرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه ، رب يوم يا سراق بن مالك ، لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى ، كان شرفا لك ولقومك ، انزع . فنزعت ، فقال : اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك ، وكان أحب إليك مني ، وأكرم عليك مني ، ومنعته أبا بكر ، وكان أحب إليك مني ، وأكرم عليك مني ، وأعطيتنيه ، فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي . ثم بكى حتى رحمه من كان عنده . ثم قال لعبد الرحمن بن عوف : أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي .

            وذكر سيف بن عمر التميمي أن عمر حين ملك تلك الملابس والجواهر ، جيء بسيف كسرى ومعه عدة سيوف ; منها سيف النعمان بن المنذر نائب كسرى على الحيرة وأن عمر قال : الحمد لله الذي جعل سيف كسرى فيما يضره ولا ينفعه . ثم قال : إن قوما أدوا هذا لذووا أمانة . ثم قال : إن كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتي عن آخرته ، فجمع لزوج امرأته أو زوج ابنته ، ولم يقدم لنفسه ، ولو قدم لنفسه ووضع الفضول مواضعها لحصل له .

            شعر في فتح المدائن وقد قال بعض المسلمين ، وهو أبو بجيد نافع بن الأسود ، في ذلك :


            وأملنا على المدائن خيلا     بحرها مثل برهن أريضا
            فانتثلنا خزائن المرء كسرى     يوم ولوا وحاص منا جريضا

            التالي السابق


            الخدمات العلمية