الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            كتب التاريخ من الهجرة بمشورة علي . وفي ربيع الأول من سنة ست عشرة كتب عمر بن الخطاب التأريخ ، وهو أول من كتبه وسببه أنه رفع إلى عمر صك مكتوب لرجل على آخر بدين يحل عليه في شعبان ، فقال : أي شعبان ؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها ، أم التي بعدها ؟ ثم جمع الناس فقال : ضعوا للناس شيئا يعرفون به حلول ديونهم . فيقال : إنهم أراد بعضهم أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم ، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده ، فكرهوا ذلك . ومنهم من قال : أرخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر . فكرهوا ذلك ، ولطوله أيضا . وقال قائلون : أرخوا من مولد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون : من مبعثه ، صلى الله عليه وسلم . وأشار علي بن أبي طالب وآخرون أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة ; لظهوره لكل أحد فإنه أظهر من المولد والمبعث . فاستحسن ذلك عمر والصحابة ، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وأرخوا من أول تلك السنة من محرمها . وعند مالك ، رحمه الله ، فيما حكاه عنه السهيلي وغيره أن أول السنة من ربيع الأول لقدومه ، صلى الله عليه وسلم ، إلى المدينة فيه . والجمهور على أن أول السنة من المحرم ; لأنه أضبط ، لئلا تختلف الشهور ، فإن المحرم أول السنة الهلالية العربية . وكانت للعرب أيام وأعلام يعدونها ، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي إلى الفيل ، وكان التأريخ من الفيل حتى أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة .

            وإنما أرخ عمر بعد سبع عشرة من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ . قال: فجمع عمر الناس للمشورة ، فقال بعضهم: أرخ لمبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال بعضهم: أرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال عمر: لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل . وقال ابن سيرين : قام رجل إلى عمر فقال: أرخوا ، فقال عمر: ما أرخوا؟ قال: شيء تفعله الأعاجم ، يكتبون في شهر كذا من سنة كذا ، قال عمر: حسن فأرخوا ، فقال: من أي السنين نبدأ؟ فقالوا: من مبعثه ، وقالوا: من وفاته ، ثم أجمعوا على الهجرة ، ثم قال: فبأي الشهور نبدأ ، فقالوا: من رمضان ، ثم قالوا: المحرم؛ فإنه منصرف الناس من حجهم ، وهو شهر حرام ، فأجمعوا على المحرم . قال ابن الجوزي: فقد قدموا التأريخ شهرين وبعض الآخر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول .

            وقد قيل: إنما كتب عمر التاريخ في سنة ست عشرة .

            وقال قدامة بن جعفر الكاتب : تاريخ كل شيء آخره ، وهو في الوقت غايته والموضع الذي انتهى إليه ، يقال: فلان تاريخ قومه؛ أي: إليه انتهى شرفهم . ويقال: ورخت الكتاب توريخا ، وأرخته تأريخا ، اللغة الأولى لتميم ، والأخرى لقيس ، ولكل مملكة وأهل ملة تأريخ ، وقد كان الروم أرخوا على حسب ما وقع من الأحداث إلى أن استقر تأريخهم على وفاة ذي القرنين ، وكانت الفرس تؤرخ بأعدل ملك لها إلى أن استقر تأريخها على هلاك يزدجرد الذي كان آخر ملوكهم ، وكانت العرب تؤرخ بتفرق ولد إسماعيل وخروجهم عن مكة ، ثم أرخوا بعام الغدرة ، وقال: إن ملكا من ملوك حمير وجه إلى الكعبة بكسوة وطيب ، فاعترض قوم من بني يربوع بن حنظلة الرسل فقتلوهم ، فانتهبوا ذلك ، وكانوا لا يفعلون ذلك في الأشهر الحرم ، فسمي عام الغدرة . ثم أرخوا بعام الفيل ، وكان في اليوم الثاني عشر من شباط سنة ثمانمائة واثنين وثمانين لذي القرنين ، ثم أرخ بسني الهجرة ، ابتدأ بذلك عمر بن الخطاب .

            والتواريخ العربية إنما هي على الليالي ، وسائر تواريخ الأمم على الأيام؛ لأن سنيهم تجري على أمر الشمس ، وهي نهارية ، وسنو العرب يعمل فيها على القمر ، وابتداء رؤيتنا له الليل ، فيقال في أول ليلة مستهل ، ولا يقال ذلك في النهار ، ويقال في آخر الشهر يوم كذا: انسلاخ شهر كذا؛ لأن الشهر يبتدئ بابتداء الليل وينقضي بانقضاء النهار ، وما قبل الخامس عشر يعرف بالليالي المواضي ، وإذا كان بعده عرف بالليالي البواقي .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية