في وذلك أن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر ، كتابا وذكر فيه: إنا سألناهم فتأولوا ، وقالوا: خيرنا فاخترنا ، قال: سنة ثماني عشرة فهل أنتم منتهون ، فكتب إليه عمر رضي الله عنه إن المراد "فانتهوا" . فادعهم ، فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم ، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين [جلدة] ، فسألهم فقالوا: حرام ، فجلدهم ثمانين [ثمانين] ، فندموا على لجاجتهم ، حتى وسوس أبو جندل في نفسه ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر في ذلك ، وسأله أن يكتب إلى أبي جندل ويذكره ، فكتب إليه عمر بن الخطاب في ذلك : من عمر إلى أبي جندل ، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] . فتب وارفع رأسك وابرز ولا تقنط ، فإن الله تعالى يقول قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [ الزمر : 53 ] . وقال: عمر ليحدثن فيكم يا أهل الشام حادث ، فحدثت الرمادة في هذه السنة .
وذلك أن الناس أصابهم جدب وقحط وجوع شديد حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس ، وكانت الريح تسفي ترابا كالرماد ، فسمي ذلك العام وقد أجدب الناس في هذه السنة بأرض الحجاز ، وجفلت الأحياء إلى المدينة ولم يبق عند أحد منهم زاد ، فلجئوا إلى أمير المؤمنين فأنفق فيهم من حواصل بيت المال مما فيه من الأطعمة والأموال حتى أنفده ، وألزم نفسه أن لا يأكل سمنا ولا سمينا حتى يكشف ما بالناس ، فكان في زمن الخصب يبس له الخبز باللبن والسمن ، ثم كان عام الرمادة يبس له بالزيت والخل ، وكان يستمرئ الزيت ، وكان لا يشبع مع ذلك ، فاسود لون عمر ، رضي الله عنه ، وتغير جسمه حتى كاد يخشى عليه من الضعف . واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر ، ثم تحول الحال إلى الخصب والدعة ، وانشمر الناس عن المدينة إلى أماكنهم . عام الرمادة ،
قال الشافعي : بلغني أن رجلا من العرب قال لعمر حين ترحل الأحياء عن المدينة : لقد انجلت عنك وإنك لابن حرة . أي : واسيت الناس وأنصفتهم وأحسنت إليهم . وقد روينا أن عمر عس المدينة ذات ليلة في عام الرمادة فلم يجد أحدا يضحك ، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة ، ولم يجد سائلا يسأل ، فسأل عن سبب ذلك ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ، إن السؤال سألوا فلم يعطوا فقطعوا السؤال ، والناس في هم وضيق ، فهم لا يتحدثون ولا يضحكون . كتب عمر إلى أمراء الأمصار يستمدهم فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة : أن يا غوثاه لأمة محمد . وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر : أن يا غوثاه لأمة محمد . فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البر وسائر الأطعمات ، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة ومن جدة إلى مكة . لكن ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة مشكل ؛ فإن مصر لم تكن فتحت في سنة ثماني عشرة ، فإما أن يكون عام الرمادة بعد سنة ثماني عشرة ، أو يكون ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهما ، والله أعلم .
وذكر سيف عن شيوخه ، أن أبا عبيدة قدم المدينة ومعه أربعة آلاف راحلة تحمل طعاما ، فأمره عمر بتفرقتها في الأحياء حول المدينة فلما فرغ من ذلك أمر له عمر بأربعة آلاف درهم ، فأبى أن يقبلها ، فألح عليه عمر حتى قبلها .
وكتب عمر إلى الناس أن عليكم أنفسكم ، ومن غير فغيروا عليه ، ولا تعيروا أحدا فيفشو فيكم البلاء . وقد قال أبو الزهراء القشيري في ذلك :
ألم تر أن الدهر يعثر بالفتى وليس على صرف المنون بقادر صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي
ولست عن الصهباء يوما بصابر رماها أمير المؤمنين بحتفها
فخلانها يبكون حول المعاصر
وكان العباس قد طال عمره ، وعيناه تذرفان ولحيته تجول على صدره وهو يقول : اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة ، ولا تدع الكسير بدار مضيعة ، فقد صرخ الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى ، وأنت تعلم السر وأخفى ، اللهم فأغنهم بغناك قبل أن يقنطوا فيهلكوا ، فإنه لا ييأس إلا القوم الكافرون . فنشأت طريرة من سحاب ، فقال الناس : ترون ترون ! ثم التأمت ومشت فيها ريح ثم هدأت ودرت ، فوالله ما تروحوا حتى اعتنقوا الجدار وقلصوا المآزر ، فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون : هنيئا لك ساقي الحرمين ! فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب :
بعمي سقى الله الحجاز وأهله عشية يستسقي بشيبته عمر
توجه بالعباس في الجدب راغبا إليه فما إن رام حتى أتى المطر
ومنا رسول الله فينا تراثه فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر