الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثم دخلت سنة أربع وثلاثين

            قيل : فيها كانت غزوة الصواري ، في قول بعضهم ، وقد تقدم ذكرها .

            وفيها تكاتب المنحرفون عن عثمان للاجتماع لمناظرته فيما كانوا يذكرون أنهم نقموا عليه .

            ذكر الخبر عن ذلك وعن يوم الجرعة

            قد ذكرنا خبر المسيرين من الكوفة ومقامهم عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان سنة إحدى عشرة من خلافة عثمان ، وكان سعيد قد ولى قبل مخرجه إلى عثمان بسنة وبعض أخرى الأشعث بن قيس أذربيجان ، وسعيد بن قيس الري ، والنسير العجلي همذان ، والسائب بن الأقرع أصبهان ، ومالك بن حبيب ماه ، وحكيم بن سلام الحزامي الموصل ، وجرير بن عبد الله قرقيسيا ، وسلمان بن ربيعة الباب ، وجعل القعقاع بن عمرو على الحرب ، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس ، وخلت الكوفة من الرؤساء . فخرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان ، ومعه الذين كان ابن السوداء يكاتبهم ، فأخذه القعقاع بن عمرو فقال : إنما نستعفي من سعيد . فقال : أما هذا فنعم ، فتركه وكاتب يزيد المسيرين في القدوم عليه ، فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن بن خالد ، فسبقهم الأشتر ، فلم يفجأ الناس يوم الجمعة إلا والأشتر على باب المسجد يقول : جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركت سعيدا يريده على نقصان نسائكم على مائة درهم ، ورد أولي البلاء منكم إلى ألفين ، ويزعم أن فيئكم بستان قريش . فاستخف الناس وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمع منهم .

            فخرج يزيد وأمر مناديا ينادي : من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل ، فبقي أشراف الناس وحلماؤهم في المسجد . وعمرو بن حريث يومئذ خليفة سعيد ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأمرهم بالاجتماع والطاعة ، فقال له القعقاع : أترد السيل عن أدراجه ؟ هيهات لا والله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية ، ويوشك أن تنتضى ويعجون عجيج العدان ، ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده الله عليهم أبدا ، فاصبر . قال : أصبر . وتحول إلى منزله ، وخرج يزيد بن قيس فنزل الجرعة ، وهي قريب من القادسية ، ومعه الأشتر ، فوصل إليهم سعيد بن العاص ، فقالوا : لا حاجة لنا بك . قال : إنما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلا وإلي رجلا ، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل واحد ؟ ثم انصرف عنهم ، وتحسوا بمولى له على بعير قد حسر فقال : والله ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع . فقتله الأشتر . ومضى سعيد حتى قدم على عثمان ، فأخبره بما فعلوا وأنهم يريدون البدل وأنهم يختارون أبا موسى ، فجعل أبا موسى الأشعري أميرا ، وكتب إليهم :

            أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد ، والله لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي ، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه ، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا ما استعفيتم منه ، أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على الله حجة ، ولنصبرن كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون . ورجع من الأمراء من قرب من الكوفة ، فرجع جرير من قرقيسيا ، وعتيبة بن النهاس من حلوان ، وخطبهم أبو موسى وأمرهم بلزوم الجماعة ، ( وطاعة عثمان ) ، فأجابوا إلى ذلك وقالوا : صل بنا فقال : لا إلا على السمع والطاعة لعثمان . قالوا : نعم . فصلى بهم وأتاه ولايته فوليهم .

            وقيل : سبب يوم الجرعة أنه كان قد اجتمع ناس من المسلمين ، فتذاكروا أعمال عثمان فأجمع رأيهم ، فأرسلوا إليه عامر بن عبد الله التميمي ثم العنبري ، وهو الذي يدعى عامر بن عبد القيس ، فأتاه فدخل عليه فقال له : إن ناسا من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك ، فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما ، فاتق الله وتب إليه . فقال عثمان : انظروا إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ، ثم هو يجيء يكلمني في المحقرات ، ووالله ما يدري أين الله ! فقال عامر : بلى والله إني لأدري أن الله لبالمرصاد !

            فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن سعد وإلى سعيد بن العاص وعمرو بن العاص وعبد الله بن عامر فجمعهم فشاورهم وقال لهم : إن لكل امرئ وزراء ونصحاء ، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ، وقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إلي أن أعزل عمالي ، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون ، فاجتهدوا رأيكم . فقال له ابن عامر : أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ولا يكون همة أحدهم إلا في نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته . وقال سعيد : احسم عنك الداء فاقطع عنك الذي تخاف ، إن لكل قوم قاعدة متى تهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر . فقال عثمان : إن هذا هو الرأي لولا ما فيه . وقال معاوية : أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله وأكفيك أنا أهل الشام . وقال عبد الله بن سعد : إن الناس أهل طمع ، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم . ثم قام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية ، فقلت وقالوا وزغت وزاغوا ، فاعتدل أو اعتزل ، فإن أبيت فاعتزم عزما واقدم قدما . فقال له عثمان : ما لك قمل فروك ؟ أهذا الجد منك ؟ فسكت عمرو حتى تفرقوا فقال : والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك ، ولكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا ، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي ، فأقود إليك خيرا وأدفع عنك شرا .

            فرد عثمان عماله إلى أعمالهم ، وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث ، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ، ورد سعيدا إلى الكوفة ، فلقيه الناس من الجرعة وردوه ، كما سبق ذكره . قال أبو ثور الحداني : جلست إلى حذيفة ، وأبي مسعود الأنصاري بمسجد الكوفة يوم الجرعة ، فقال أبو مسعود : ما أرى أن ترد على عقبيها حتى يكون فيها دماء . فقال حذيفة : والله لتردن على عقبيها ولا يكون فيها محجمة دم ، وما أرى اليوم شيئا إلا وقد علمته والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي . فرجع سعيد إلى عثمان ولم يسفك دم ، وجاء أبو موسى أميرا ، وأمر عثمان حذيفة بن اليمان أن يغزو الباب فسار نحوه . سبب تألب الأحزاب على عثمان

            وذكر سيف بن ع?ر أن سبب تألب الأحزاب على عثمان أن رجلا يقال له : عبد الله بن سبأ . كان يهوديا فأظهر الإسلام وصار إلى مصر ، فأوحى إلى طائفة من الناس كلاما اخترعه من عند نفسه مضمونه أنه يقول للرجل : أليس قد ثبت أن عيسى ابن مريم سيعود إلى هذه الدنيا ؟ فيقول الرجل : بلى ! فيقول له : فرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أفضل منه فما تنكر أن يعود إلى هذه الدنيا وهو أشرف من عيسى ابن مريم عليه السلام ! ثم يقول : وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب ؛ فمحمد خاتم الأنبياء ، وعلي خاتم الأوصياء . ثم يقول : فهو أحق بالإمرة من عثمان ، وعثمان معتد في ولايته ما ليس له . فأنكروا عليه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فافتتن به بشر كثير من أهل مصر ، وكتبوا إلى جماعات من عوام أهل الكوفة والبصرة ؛ فتمالئوا على ذلك ، وتكاتبوا فيه ، وتواعدوا أن يجتمعوا في الإنكار على عثمان ، وأرسلوا إليه من يناظره ويذكر له ما ينقمون عليه من توليته أقرباءه وذوي رحمه وعزله كبار الصحابة . فدخل هذا في قلوب كثير من الناس فجمع عثمان بن عفان نوابه من الأمصار ، فاستشارهم فأشاروا عليه بما تقدم ذكرنا له . والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية