الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر عدة حوادث

            في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، في شهر رمضان ، انكسفت الشمس جميعها ، وأظلمت الأرض حتى بقي الوقت كأنه ليل مظلم ، وظهرت الكواكب ، وكان ذلك ضحوة النهار يوم الجمعة التاسع والعشرين منه ، وكنت حينئذ صبيا بظاهر جزيرة ابن عمر مع شيخ لنا من العلماء أقرأ عليه الحساب ، فلما رأيت ذلك خفت خوفا شديدا ، وتمسكت به ، فقوى قلبي ، وكان عالما بالنجوم أيضا ، وقال لي : الآن ترى هذا جميعه ، فانصرف سريعا .

            وفيها ولى الخليفة المستضيء بأمر الله حجابة الباب أبا طالب نصر بن علي الناقد ، وكان يلقب في صغره قنبرا ، فصاروا يصيحون به ذلك إذا خرج ، فأمر الخليفة أن يركب معه جماعة من الأتراك ويمنعوا الناس ، من ذلك ، فامتنعوا ، فلما كان قبل العيد خلع عليه ليركب في الموكب ، فاشترى جماعة من أهل بغداد من القنابر شيئا كثيرا ، وعزموا على إرسالها في الموكب إذا رأوا ابن الناقد ، فأنهي ذلك إلى الخليفة ، وقيل له يصير الموكب ضحكة ، فعزله وولى ابن المعوج .

            وفيها زلزلت بلاد العجم من حد العراق إلى ما وراء الري ، وهلك فيها خلق كثير ، وتهدمت دور كثيرة ، وأكثر ذلك كان بالري وقزوين .

            وفيها ، في ربيع الآخر ، استوزر سيف الدين غازي ، صاحب الموصل ، جلال الدين أبا الحسن علي بن جمال الدين محمد بن علي ، وكان أبوه جمال الدين وزير البيت الأتابكي ، وقد تقدمت أخباره ، وهو المشهور بالجود والإفضال ، ولما ولي جلال الدين الوزارة ظهرت منه كفاية عظيمة ، ومعرفة تامة بقوانين الوزارة ، وله مكاتبات وعهود حسنة مدونة مشهورة ، وكان جوادا فاضلا خيرا ، عمره ، لما ولي الوزارة ، خمس وعشرون سنة .

            وفيها ، في ذي الحجة ، استناب سيف الدين أيضا عنه بقلعة الموصل مجاهد الدين قايماز ، وفوض إليه الأمور ، وكان قبل ذلك [ فوض ] إليه الأمر بمدينة إربل وأعمالها ، وكان - رحمه الله - من صالحي الأمراء وأرباب المعروف ، بنى كثيرا من الجوامع والخانات في الطرق ، والقناطر على الأنهار والربط وغير ذلك من أبواب البر ، وكان دائم الصدقة ، كثير الإحسان ، عادل السيرة - رحمه الله - .

            وفيها قبض الخليفة على عماد الدين صندل المقتفوي ، أستاذ الدار ، ورتب مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي بن الصاحب .

            وفيها ، في رمضان ، قدم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب الذي ملك اليمن إلى دمشق لما سمع أن أخاه صلاح الدين ملكها ، حن إلى الوطن والأتراب ففارق اليمن وسار إلى الشام ، وأرسل من الطريق إلى أخيه يعلمه بوصوله ، وكتب في الكتاب شعرا من قول ابن المنجم المصري :


            وإلى صلاح الدين أشكو أنني من بعده مضنى الجوانح مولع     جزعا لبعد الدار منه ولم أكن
            لولا هواه لبعد دار أجزع     فلأركبن إليه متن عزائمي
            ويخب بي ركب الغرام ويوسع     ولأقطعن من النهار هواجرا
            قلب النهار بحرها يتقطع     ولأسرين الليل لا يسري به
            طيف الخيال ولا البروق اللمع     وأقدمن إليه قلبي مخبرا
            أني بجسمي من قريب أتبع     حتى أشاهد منه أسعد طلعة
            من أفقها صبح السعادة يطلع



            وفيها أنفذ تقي الدين عمر ابن أخي السلطان مملوكه بهاء الدين قراقوش في جيش إلى بلاد المغرب ففتح بلادا كثيرة هنالك وغنم أموالا جزيلة ثم عاد إلى مصر وطابت له وترك تلك البلاد .

            وفيها قدم إلى دمشق الواعظ الكبير أبو الفتوح عبد السلام بن يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الدمشقي الأصل البغدادي المنشأ ذكره العماد في الخريدة ، قال : وكان صاحبي وجلس للوعظ وحضر عنده السلطان صلاح الدين . وأورد له مقطعات أشعار ، فمن ذلك ما كان يقول في مجلسه :


            يا مالكا مهجتي يا منتهى أملي     يا حاضرا شاهدا في القلب والفكر
            خلقتني من تراب أنت خالقه     حتى إذا صرت تمثالا من الصور
            أجريت في قالبي روحا منورة     تمر فيه كجري الماء في الشجر
            جمعت بين صفا روح منورة     وهيكل صغته من معدن كدر
            إن غبت فيك فيا فخري ويا شرفي     وإن حضرت فيا سمعي ويا بصري
            إن احتجبت فسري فيك في وله     وإن خطرت فقلبي منك في خطر
            تبدو فتمحو رسومي ثم تثبتها     وإن تغيبت عني عشت بالأثر

            ومن الحوادث فيها:

            أنه تقدم إلي بالجلوس تحت المنظرة الشريفة بباب بدر فتكلمت بكرة الخميس ثالث المحرم والخليفة حاضر وكان يوما مشهودا ثم [تقدم إلي بالجلوس هنالك] يوم عاشوراء فأقبل الناس إلى المجلس من نصف الليل وكان الزحام شديدا زائدا على الحد [ووقف من الناس على الطرقات ما لا يحصى] وحضر أمير المؤمنين وفقه الله .



            [وبني كشك في البلد لأمير المؤمنين ناحية جامع السلطان] وجاء [في ليلة الأحد] ثامن ربيع الآخر مطر عظيم [برعد شديد] ووقعت صاعقة في دار الخلافة وراء التاج وأحرقت [ما حولها فأصبحوا] فأخرجوا أهل الحبوس وأكثروا الصدقات وكانت ابنتي [رابعة] قد خطبت [فسأل الزوج أن يكون العقد بباب الحجرة وحضر قاضي القضاة ونقيب النقباء وجماعة من الشهود والخدم والأكابر] فزوجت [ابنتي] بأبي الفتح ابن الرشيد [الطبري] وتزوج حينئذ ولدي أبو القاسم بابنة الوزير يحيى بن هبيرة [وكان الخاطب ابن المهتدي] . وتقدم إلي بالجلوس ليلة رجب تحت المنظرة [فاجتمع الناس] فجاء مطر فمنع الحضور فتقدم بالجلوس في اليوم الثاني فتكلمت وأمير المؤمنين حاضر وأمرنا بالبكور إلى دعوة أمير المؤمنين فحضرنا [بكرة السبت وحضر الوزير ابن رئيس الرؤساء] وأرباب [الدولة والعلماء والمتصوفة فأكلوا وأنشد ابن شبيب قصيدة يمدح فيها أمير المؤمنين وخرج قاضي القضاة وأرباب الدولة بعد الأكل وخرجت معهم وبات الباقون مع المتصوفة على سماع الإنشاد وفرق على الجماعة مال وخلع وكان هذا رسمهم في كل رجب وكانت العادة أن لا يدخل أحد الدار بطيلسان ولا طرحة احتراما لأمير المؤمنين سوى قاضي القضاة فإنه كان يجعل طرحته طيلسانا وكنت إذا تكلمت بباب بدر أصعد المنبر فإذا جلست رفعت الطرحة فوضعتها إلى جانبي فإذا فرغ المجلس أعدتها] وفي يوم الجمعة تاسع رجب: استدعانا صاحب المخزن للمناظرة فحضر فقهاء بغداد ولم يتخلف إلا النادر ودل أبو الخير القزويني في مسألة زكاة الحلي واعترضت عليه ثم جرينا على العادة في الجلوس [بباب بدر ليلة الجمعة] فأسبوع لي وأسبوع للقزويني وكان الزحام عندي أكثر [وبعث إلي بعض الأمراء من أقارب أمير المؤمنين فقال والله ما أحضر أنا ولا أمير المؤمنين غير مجلسك وإنما تلمحنا مجلس غيرك يوما وبعض يوم آخر] . وفي [يوم الجمعة] رابع عشر شعبان: حملت إلي طريفة قد بعثت إلى أمير المؤمنين من قرية قريبة من بغداد [يقال لها الوقت] وهي بقرتان قد ولدتا برأسين ورقبتين وأربع أيدي وبطن واحد وفرج ذكر وفرج أنثى إلا أن لكل واحدة رجلا وقيل إن هذه ولدت حية ثم ماتت .

            وفي رمضان: كتب على حائط المدرسة التي وقفتها الجهة وسلمتها إلي بخط القطاع في الآجر "وقفت هذه المدرسة الميمونة الجهة المعظمة الشريفة الرحيمة بدار الرواشني في أيام سيدنا ومولانا الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين على أصحاب الإمام أحمد بن حنبل وفوضت التدريس بها إلى ناصر السنة أبي الفرج ابن الجوزي] وما زالت المجالس تحت المنظرة بباب بدر إلى آخر رمضان وكان في آخر رمضان قبل مجلسنا [هناك] بيوم قد انزعج البلد ولبس السلاح فاختلفت الأراجيف فانقشع الأمر أن أمير المؤمنين أصابته صفراء من الصوم فتكلمت تحت المنظرة فسكن البلد فحدثني من يلوذ بخدمة [أمير المؤمنين] قال حضر يومئذ [الإمام] عندك المجلس متحاملا ولولا شدة حبه لك [لما حضر] [لما كان اعتراه من الألم] ، وحدثني صاحب المخزن قال كتبت إلى أمير المؤمنين [في كلام كنت ذكرته] هل وقع ما ذكره فلان بالغرض فكتب [أمير المؤمنين] ما على ما ذكره فلان مزيد .





            وكان الرفض في هذه الأيام قد كثر فكتب صاحب المخزن إلى أمير المؤمنين أن لم تقو يدي ابن الجوزي لم تطق على دفع البدع فكتب أمير المؤمنين بتقوية يدي فأخبرت الناس بذلك على المنبر وقلت إن أمير المؤمنين [صلوات الله عليه] قد بلغه كثرة الرفض وقد خرج توقيعه بتقوية يدي في إزالة البدع فمن سمعتموه من العوام يتنقص بالصحابة فأخبروني حتى أنقض داره وأخلده الحبس وإن كان من الوعاظ حدرته المشان . فانكف الناس ثم [تقدم في يوم الخميس] عاشر شوال بمنع الوعاظ كلهم إلا ثلاثة كل واحد من مذهب أنا من الحنابلة والقزويني من الشافعية وصهر العبادي من الحنفية ثم سئل في ابن عبد القادر فأطلق .

            وعقدت الولاية على مكة لأمير المؤمنين فخرج الحاج على خوف شديد من القتال .

            وفي يوم السبت رابع ذي القعدة: وقت الضحى خرج أمير المؤمنين إلى الكشك [الذي عمل له خارج السور] وخرج أرباب الدولة مشاة وخرج الناس [ينظرون إليه] ويدعون له [فدخل الكشك] فأقام فيه ساعة ثم خرج فمضى نحو القورج ثم عاد فدخل من باب النصر وقت الظهر .

            وفي يوم الجمعة غرة ذي الحجة: خلع على ظهير الدين أبي بكر بن نصر ابن العطار بباب الحجرة خلعة سنية وأعطي مركبا وسيفا وولي المخزن ولاية تامة وخلع يومئذ على أستاذ الدار ابن الصاحب] .

            [وفي يوم الأربعاء سادس ذي الحجة] صنع الوزير ابن رئيس الرؤساء دعوة وجمع فيها أرباب المناصب وحضر الخليفة [فاستدعيت فخلعت علي خلعة] ونصب لي منبر في الدار فتكلمت [بعد أن أكلوا الطعام] والخليفة حاضر [والوزير] وجميع أرباب المناصب وجميع علماء بغداد والفقهاء والوعاظ إلا النادر وخلع علي خلعة ثم تكلمت يوم عرفة وكان مجلسا عظيما تاب فيه خلق كثير وقطعت شعورا كثيرة وكان الخليفة حاضرا .

            وفي يوم عيد الأضحى: وقعت فتنة في أخذ جمال البحريين جماعة من العوام فنصر بعضهم أمير يقال له سنقر الصغير فرماه العوام بالآجر فضربهم هو وأصحابه بالنشاب ثم أصبحوا [يوم فرح ساعة فأقاموا الحرب وكان الذين خاصموه أهل باب الأزج فكان أصحابه يخاصمونهم] فقامت [يومئذ] الفتنة [عامة النهار] ومات بين الفريقين [نحو] عشرة أنفس ونهب من باب الأزج قطعة ثم سكنت الثائرة وأخرج أمير المؤمنين مالا ففرقه على من نهب له شيء .

            وخرج في أواخر ذي الحجة: عسكر كثير إلى بني خفاجة [لمحاربتهم] فرحلوا فلم يدركوهم [وقتل من المطاردين قوم]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية