(وبقي ها هنا أمور) الأول اختلف في جملة الحمد، هل هي إخبارية أم إنشائية؟ فالذي عليه معظم العلماء أنها إخبارية، كما يقتضيه الظاهر لما يلزم على الإنشاء من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود، واللازم باطل، فالملزوم مثله، ولا يرد أن القصد إحداث الحمد لا الإخبار بثبوته، لأن الإخبار بثبوت جميع المحامد لله تعالى هو عين الحمد، كما أن قولك: الله واحد، عين التوحيد، وألف العلامة في الانتصار لذلك، ورد من زعم أنها إنشائية، وأطال فيه، واهتم برده البخاري ابن الهمام وذكر أن ما ذكر باطل، لأن اللازم من المقارنة انتفاء وصف الواصف لا الاتصاف، إذ الحمد إظهار الصفات، لا ثبوتها، وأيضا المخبر بالحمد [ ص: 76 ] لا يقال له حامد، إذ لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم قطعا، فلا يقال لقائل: زيد له القيام قائم، فلو كان الحمد إخبارا محضا لم يقل لقائل: الحمد لله حامد، وهو باطل، نعم يتراءى لزوم أن يكون كل مخبر منشئا حيث كان واصفا للواقع ومظهرا له، وهو توهم، فإن الحمد مأخوذ فيه، مع ذكر الواقع كونه على وجه التعظيم، وهذا ليس جزء ماهية الخبر، فاختلف الحقيقتان، فالجملة إنشائية لا محالة، وقال الملا خسرو : هي وأمثالها إخبارية لغة، ونقلها الشارع للإنشاء لمصلحة الأحكام، واعترض على إنشائيتها بأن الاستغراق ينافيه، ويستلزم كون الحامد منشئا لكل حمد، ومن المحال إنشاء الحمد القائم بغيره، وأجيب بأنه لا منافاة، ولا استلزام، ويكفي كونه منشئا للإخبار، بأن كل حمد ثابت له ومحمود به، والذي أرتضيه أنها إخبارية كما عليه المعظم، ويد الله تعالى مع الجماعة، والمراد الإخبار بأن الله تعالى مستحق الحمد كما قال سبحانه: له الحمد في الأولى والآخرة والمتكلم بها عن اعتقاد واصف ربه سبحانه بالجميل ومعظم له جل شأنه، فيقال له حامد لذلك لا لمحض الإخبار بما فيه لفظ الحمد، بل إذا غير الصيغة إلى ما ليس فيها ذلك اللفظ مما هو مشتمل على الوصف بالجميل بقصد التعظيم قيل له أيضا حامد، فللحمد صيغ شتى، وعبارات كثيرة، حتى جعل منها الإقرار بالعجز عن الحمد، وقد نقل أن داود عليه السلام قال : يا رب، كيف أشكرك والشكر من آلائك؟ فقال : يا داود، لما علمت عجزك عن شكري، فقد شكرتني، فما ذكره ابن الهمام أولا من أن المخبر بالحمد لا يقال له حامد، إن أراد أن المخبر من حيث أنه مخبر يقال له ذلك فمسلم، والدليل تام، لكنا بمعزل عن هذه الدعوى، وإن أراد أن المخبر مطلقا ولو قصد التعظيم لا يقال له ذلك فممنوع ولا تقريب في الدليل، كما لا يخفى، وما ذكره ثانيا من قوله نعم، إلخ، يعلم دفعه من خبايا زوايا كلامنا، وما ذكره الملا خسرو ويرد عليه أن النقل في أمثال ما نحن فيه بلا ضرورة ممنوع، وتظن من كلامي هذا أني أمنع أن يكون الحمد بجملة إنشائية رأسا، معاذ الله، ولكني أقول إن الجملة هنا إخبارية، وإن الحمد يصح بها بناء على ما ذكرناه، والبحث بعد محتاج إلى تحرير، ولعل الله تعالى يوفقه لنا في مظانه، والظن بالله تعالى حسن.
(الثاني) أنه شاع السؤال عن معنى كون حمد العباد لله تعالى مع أن حمدهم حادث، وهو سبحانه القدير، ولا يجوز قيام الحادث به، وأجيب بأن المراد تعلق الحمد به تعالى ولا يلزم من التعلق القيام كتعلق العلم بالمعلومات، فلا يتوجه الإشكال أصلا، وقيل: إن الحمد مصدر بناء المجهول، فيكون الثابت له عز شأنه هو المحمودية، وصيغة المصدر تحتمل ذلك، وغيره، ولهذا جعل بعضهم في الحمد لله أوائل الكتب اثنين وأربعين احتمالا، وقيل: وهو من الغرابة بمكان أن اللام للتعليل أي الحمد ثابت لأجل الله تعالى.
(الثالث) أنه أتى باسم الذات في الحمد له لئلا يتوهم لو اقتصر على الصفة اختصاص استحقاقه الحمد بوصف دون وصف، وذلك لأن اللام على ما قيل للاستحقاق، فإذا قيل: الحمد لله يفيد استحقاق الذات له، وإذا علق بصفة أفاد استحقاق الذات الموصوفة بتلك الصفة له، والاختصاص إفادة التعريف، ولكون الاختصاص كذلك حكما باطلا في نفسه جعل متوهما لا لأن تعليق الحكم بالوصف يدل على العلية لا على الاختصاص لأنه [ ص: 77 ] مستفاد من تعريف المسند إليه، ومعنى الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة، حتى الجميع لا ما يكون الذات البحت مستحقا له، فإن استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل، وسمي ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة، أو لدلالة اسم الذات عليه، أو لأنه لما لم يكن مستندا إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات، وقد قسم بعض ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم الحمد باعتبار صدوره إلى قسمين، فمصدره باعتبار الفرق من محلين، ومنبعه من عينين، فإن وجد من الحق وصدر من الوجود المطلق، فتارة يكون على الذات بانفرادها، ووحدتها، وغيبتها في عماء هويتها، وتارة بكمال إطلاقها في وجودها، وتارة بتنزلاتها إلى حظيرات شهودها، وتارة بكمال أوصافها ونعوتها، وتارة بكمال آثارها وأفعالها، وتارة يثني على أوصافها من حيث الجملة، وتارة من حيث التفصيل، فيثني على العلم من حيث إحاطته بكل معلوم من حق وخلق وغيب وشهادة وملك وملكوت وبرزخ وجبروت، واستقلاله بالوجود من غير مدة ولا مادة ولا معلم ولا مفيد، وتقدسه عن النقص، وتنزهه عما يخطر في الوهم، وكذلك على سائر الصفات بما يليق بها، ويجب لها، وإن وجد من الخلق، والوجود المقيد فتارة يكون على ذات الحق، وتارة على صفاته، وتارة على أسمائه، ومرة على أفعاله، وطورا على أسراره، وكرة على لطيف صنعه، وخفي حكمته في أفعاله وآثاره، وذلك بحسب مبلغ الناس في العلم، ومنتهاهم في العقل والفهم، وما قدروا الله حق قدره ، ولا يحيطون به علما، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وإذا اعتبر الجمع كان الكل منه وإليه، وأن إلى ربك المنتهى فلا حامد ولا محمود سواه.
أورى بسعدى والرباب وزينب وأنت الذي يعنى وأنت المؤمل
وهناك يرتفع كل إشكال، وينقطع كل مقال، وإنما قدم الحمد على الاسم الكريم لاقتضاء المقام مزيد اهتمام به، لكونه بصدد صدور مدلوله، فهو نصب العين، وإن كان ذكر الله تعالى أهم في نفسه، والأهمية تقتضي التقديم، إلا أن المقتضى العارض بحسب المقام أقوى عند المتكلم، وتأخير ما قدم هنا في نحو قوله تعالى: وله الحمد في السماوات لغرض آخر سيأتيك مع أمور أخر في محله إن شاء الله تعالى، والرب في الأصل مصدر بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله بحسب استعداده الأزلي شيئا فشيئا، وكأنها من: ربا الصغير كعلا، إذا نشأ فعدي بالتضعيف، ووصف به للمبالغة الحقيقية والصورية، فالتجوز فيه إما عقلي من قبيل فإنما هي إقبال وإدبار، أو لغوي كـاسأل القرية، وقيل: هو صفة مشبهة، وفي شرح التسهيل أنه ممنوع، والظاهر أنه من مبالغة اسم الفاعل، أو هو اسم فاعل، وأصله راب، فحذفت ألفه، كما قالوا: رجل بار وبر، قاله ، ويؤيده إضافته إلى المفعول، وقد ذكروا أن الصفة المشبهة تضاف إلى الفاعل، ويطلق أيضا على الخالق، والسيد، والملك، والمنعم، والمصلح، والمعبود، والصاحب، إلا أن المشهور كونه بمعنى التربية، فلهذا قال بعض المحققين: إنه حقيقة فيه، لأن التبادر أمارتها، وفي البواقي إما مجاز أو مشترك، والأول أرجح لأن جميعها يوجد معنى التربية، ووجود العلاقة أمارة المجاز، ولأن اللفظ إذا دار بين المجاز والاشتراك يحمل على المجاز كما تقرر في مبادئ اللغة، وحمله أبو حيان هنا على معنى المالك، ولعل ما اخترناه خير منه، لأنه بعد تسليم أنه حقيقة في ذلك يؤدي إلى أن يكون الزمخشري مالك يوم الدين تكرارا لدخوله في رب العالمين وإن قلنا بالتخصيص بعد التعميم يحتاج إلى بيان نكتة إدراج الرحمن الرحيم بينهما، ولا تظهر لهذا العبد، على أن مختارنا أنسب بالمقام، لأن التربية أجل النعم بالنسبة إلى المنعم عليه، وأدل على كمال فعله تعالى، وقدرته وحكمته، تدلك على ذلك الآثار وما فيها من الأسرار، واستطيب بعضهم ما اختاره الطيبي من وجوب حمل الرب على كلا مفهوميه، والقدر المشترك المتصرف ألزم، وسبيل أعمال المشترك في كلا مفهوميه إذا [ ص: 78 ] اتفقا في أمر سبيل الكناية من أنها لا تنافي إرادة التصريح، مع إرادة ما عبر عنه، وإذا اختلف سبيل الحقيقة والمجاز، وعلى كل حال، لا يطلق لغة على غيره تعالى إطلاقا مستفيضا إلا مقيدا بإضافة ونحوها، مما يدل على ربوبية مخصوصة، وقول ابن حلزة في المنذر بن ماء السماء :وهو الرب والشهيد على يو م الخيارين والبلاء بلاء
نحث إلى النعمان حتى نناله فدى لك من رب طريفي وتالدي
فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر