حتى عفاها صيب ودقه داني النواحي مسبل هاطل
ووزنه فيعل، بكسر العين، عند البصريين، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين إلا ما شذ من صيقل بكسر القاف علم لامرأة، والبغداديون يفتحون العين، وهو قول تسد الأذن عنه، وقريب منه قول الكوفيين : إن أصله فعيل كطويل فقلب، وهل هو اسم جنس أو صفة بمعنى نازل، أو منزل، قولان أشهرهما الأول، وأكثر نظائره في الوزن من الثاني، وقرئ (أو كصائب)، وصيب أبلغ منه، والتنكير فيه للتنويع، والتعظيم، والسماء كل ما علاك من سقف ونحوه، والمعروفة عند خواص أهل الأرض، والمرئية عند عوامهم، وأصلها الواو من السمو، وهي مؤنثة، وقد تذكر، كما في قوله :فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء مع السحاب
أوما ترى الجلد الحقير مقبلا بالثغر لما صار جار المصحف
والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مبني على سؤال نشأ من الكلام، كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة: فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة؟ فقال : يجعلون إلخ، وجوزوا وجوها أخر ككونها في محل جر صفة للمقدر، وجوز فيها وفي (يكاد) كونها صفة صيب بتأويل، نحو: لا يطيقونه، أو في محل نصب على الحال من ضمير فيه، والعائد محذوف أو اللام نائبة عنه، أي صواعقه، والجعل في الأصل الوضع، والأصابع جمع إصبع، وفيه تسع لغات حاصلة من ضرب أحوال الهمزة الثلاث في أحوال الباء كذلك، وحكوا عاشرة، وهي أصبوع بضمها، مع واو، وهي مؤنثة، وكذا سائر أسمائها، إلا الإبهام، فبعض بني أسد يذكرها، والتأنيث أجود، وفي الآية مبالغة في فرط دهشتهم، وكمال حيرتهم، كما في الفرائد من وجوه، أحدها نسبة الجعل إلى كل الأصابع، وهو منسوب إلى بعضها، وهو الأنامل، وثانيها من حيث الإبهام في الأصابع، والمعهود إدخال السبابة، فكأنهم من فرط دهشتهم يدخلون أي أصبع كانت، ولا يسلكون المسلك المعهود، وثالثها في ذكر الجعل موضع الإدخال، فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني بالأول، من إدخاله فيه، وهل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه، أو للتجوز في الجعل، أو هو من المجاز العقلي، بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل؟ فيه خلاف، والمشهور هو الأول، وعليه الجمهور، وابن مالك ، وجماعة على الأخير ظنا منهم أن المبالغة في الاحتراز عن استماع الصاعقة، إنما يكون عليه، ولم يكتفوا فيها بتبادر الذهن إلى أن الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة، وقيل : لا مجاز هنا أصلا، لأن نسبة بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه، كما يقال : دخلت البلد، وجئت ليلة الخميس [ ص: 174 ] ومسحت بالمنديل، فإن ذلك حقيقة مع أن الدخول والمجيء والمسح في بعض البلد، والليلة، والمنديل، ولا يخفى أن كون مثل ذلك حقيقة ليس على إطلاقه، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر، (ومن) تعليلية تغني غناء اللام في المفعول له، وتدخل على الباعث المتقدم، والغرض المتأخر، وهي متعلقة بـ(يجعلون)، وتعلقها بالموت بعيد، أي يجعلون من أجل الصواعق، وهي جمع صاعقة، ولا شذوذ، والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق، وهو الصراخ وتاؤها للتأنيث، إن قدرت صفة لمؤنث، أو للمبالغة إن لم تقدر، كراوية، أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كحقيقة، وقيل : إنها مصدر كالعافية، والعاقبة، وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار، لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وقد يكون معه جرم حجري أو حديدي، وسد الآذان، إنما ينفع على المعنى الأول، وقد يراد المعنى الثاني، ويكون في الكلام إشارة إلى مبالغة أخرى في فرط دهشتهم، حيث يظنون ما لا ينفع نافعا، وقرأ (من الصواقع)، وهي لغة الحسن بني تميم، كما في قوله :
ألم تر أن المجرمين أصابهم صواقع لا بل هن فوق الصواقع
وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وجوز أبو علي في محيط أن يكون بمعنى مهلك، كما في قوله تعالى : وأحاطت به خطيئته أو عالم علم مجازاة كما في قوله تعالى : وأحاط بما لديهم وكل هذا من الظاهر، ولأهل الشهود كلام من ورائه محيط، والواو اعتراضية لا عاطفة، ولا حالية، والجملة معترضة بين جملتين من قصة واحدة، وفيها تتميم للمقصود من التمثيل [ ص: 175 ] بما تفيده من المبالغة، لأن الكافرين وضع موضع الضمير، وعبر به إشعارا باستحقاق ذوي الصيب ذلك العذاب لكفرهم، فيكون الكلام على حد قوله تعالى : مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته فإن التشبيه بحرث قوم كذلك لا يخفى حسنه، لأن الإهلاك عن سخط أشد وأبلغ، وفيه تنبيه على أن ما صنعوه من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئا، وقد أحاط بهم الهلاك، ولا يدفع الحذر القدر، وماذا يصنع مع القضاء تدبير البشر، وجعل الاعتراض من جملة أحوال المشبه، على أن المراد بالكافرين المنافقون، ولا محيص لهم عن عذاب الدارين، ووسط بين أحوال المشبه به، لإظهار كمال العناية بشأن المشبه، والتنبيه على شدة الاتصال مما يأباه الذوق السليم،