وأخرج ابن أبي حاتم عن وابن مردويه قال : إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه : ابن عباس ألم يأن الآية ، وفي خبر عن ابن مردويه بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن . أنس
وأخرج عن قالت : عائشة خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرا وجهه فقال : أتضحكون ولم يأتكم من ربكم بأنه قد غفر لكم وقد نزل علي في ضحككم آية ألم يأن للذين إلخ ؟ قالوا : يا رسول الله فما كفارة ذلك ؟ قال : تبكون بقدر ما ضحكتم ، وفي الخبر أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت ، وحديث ومن معه السابق مقدم على هذه الآثار على ما يقتضيه كلام أهل الحديث ، ( ويأن ) مضارع أنى الأمر أنيا وأناء وإناء بالكسر إذا جاء أناه أي وقته ، أي ألم يجئ وقت أن تخشع قلوبهم لذكره عز وجل . مسلم
وقرأ الحسن وأبو السمال - ألما - بالهمزة ، ولما النافية الجازمة كلم إلا أن فيه أن المنفي متوقع .
[ ص: 180 ] وقرأ يئن مضارع آن أينا بمعنى أني السابق ، وقال الحسن أبو العباس : قال قوم : إن يئين أينا الهمزة مقلوبة فيه عن الحاء وأصله حان يحين حينا وأصل الكلمة من الحين وما نزل من الحق أي القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضا فالعطف لتغاير العنوانين نحو : هو الملك القرم وابن الهمام فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا بأن كان المراد به تذكير الله تعالى إياهم فالعطف لتغاير الذاتين على ما هو الشائع في العطف وكذا إذا أريد به ذكرهم الله تعالى بالمعنى المعروف ، وجوز العطف على الاسم الجليل إذا أريد بالذكر التذكير وهو كما ترى ، وقال الطيبي : يمكن أن يحمل الذكر على القرآن وما نزل من الحق على نزول السكينة معه أي الواردات الإلهية ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم عن والترمذي البراء كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فقال : تلك السكينة تنزل للقرآن .
وفي رواية اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن وللقرآن انتهى ، ولا يخفى بعد ذلك جدا ولعلك تختار حمل الذكر وما نزل على القرآن لما يحس مما بعد من نوع تأييد له ، وفسر الخشوع للقرآن بالانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام من غير توان ولا فتور ، والظاهر أنه اعتبر كون اللام صلة الخشوع ، وجوز كونها للتعليل على أوجه الذكر فالمعنى ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر الله تعالى وكتابه الحق النازل فيسارعوا إلى الطاعة على أكمل وجوهها ، وفي الآية حض على الخشوع ، وكان رضي الله تعالى عنهما كما أخرج عنه ابن عمر إذا تلاها بكى ثم قال : بلى يا رب بلى يا رب ، وعن ابن المنذر أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرءون فانظروا في طول ما قرأتم وما ظهر فيكم من الفسق ، وروى الحسن السلمي عن أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة فأقبلت نحوها فرأيت رجلا قد خر مغشيا عليه فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : كان رجلا حاضر القلب فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيا عليه فقلت : ما هي ؟ فقيل : قوله تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله فأفاق الرجل عند سماع كلامنا فأنشأ يقول :
أما آن للهجران أن يتصرما وللغصن غصن البان أن يتبسما وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى
ألم يأن أن يبكى عليه ويرحما كتبت بماء الشوق بين جوانحي
كتابا حكى نقش الوشي المنمنما
ثم قال : إشكال إشكال إشكال فخر مغشيا عليه فحركناه فإذا هو ميت ، وعن رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل أبي بكر اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب ، ولعله أراد رضي الله تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس ولم يتأسوا بالسابقين وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم ، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر ، والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي الله تعالى عنه : أقيلوني فلست بخيركم ، وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره : معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير كما تغير هؤلاء السامعون انتهى وهو خلاف الظاهر ، وفيه نوع انتقاص للقوم ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون من كامل كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين : إن ذلك لا يكون إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ويجل عن ذلك كلام رضي الله تعالى عنه ، وقرأ غير واحد [ ص: 181 ] من السبعة «وما نزل » بالتشديد ، الصديق والجحدري وأبو جعفر والأعمش في رواية وأبو عمرو يونس وعباس عنه « نزل » مبنيا للمفعول مشددا ، وعبد الله - أنزل - بهمزة النقل مبنيا للفاعل . ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل لا نافية وما بعدها منصوب معطوف على تخشع .
وجوز أن تكون ناهية وما بعدها مجزوم بها ويكون ذلك انتقالا إلى نهي أولئك المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب بعد أن عوتبوا بما سمعت وعلى النفي هو في المعنى نهي أيضا ، وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن ، وعن أبي جعفر شيبة ويعقوب في رواية عن وحمزة سليم عنه «ولا تكونوا » بالتاء الفوقية على سبيل الالتفات للاعتناء بالتحذير ، وفي لا ما تقدم ، والنهي مع الخطاب أظهر منه مع الغيبة . فطال عليهم الأمد أي الأجل بطول أعمارهم وآمالهم ، أو طال أمد ما بينهم وبين أنبيائهم عليهم السلام وبعد العهد بهم ، وقيل : أمد انتظار القيامة والجزاء ، وقيل : أمد انتظار الفتح ، وفرقوا بين الأمد والزمان بأن الأمد يقال الغاية والزمان عام من المبدأ والغاية ، وقرأ في رواية ( الأمد ) بتشديد الدال أي الوقت الأطول ابن كثير فقست قلوبهم صلبت فهي كالحجارة ، أو أشد قسوة وكثير منهم فاسقون خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية ، قيل : من فرط القسوة وذكر أنه مأخوذ من كون الجملة حال ، وفيه خفاء والأظهر أنه من السياق ، والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله تعالى ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانوا يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل ، والقسوة مبدأ الشرور وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى ، وعن عيسى عليه السلام : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله عز وجل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله عز وجل : اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها فهو تمثيل ذكر استطرادا لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة قد بينا لكم الآيات التي من جملتها هذه الآيات لعلكم تعقلون كي تعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين .