ومن سورة الفرقان قوله عز وجل : وأنزلنا من السماء ماء طهورا الطهور على وجه المبالغة في الوصف له بالطهارة وتطهير غيره ، فهو طاهر مطهر ، كما يقال : رجل ضروب وقتول أي يضرب ويقتل وهو مبالغة في الوصف له بذلك . والوضوء يسمى طهورا ؛ لأنه يطهر من الحدث المانع من الصلاة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أي بما يطهر لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فسماه طهورا من حيث استباح به الصلاة وقام مقام الماء فيه ، وقد اختلف في حكم الماء على ثلاثة أنحاء : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا
أحدها : . إذا خالط الماء غيره من الأشياء ، الطاهرة
والثاني : إذا . خالطه نجاسة
والثالث : ؛ فقال أصحابنا : ( إذا لم تخالطه نجاسة ولم يغلب عليه غيره حتى يزيل عنه اسم الماء لأجل الغلبة ولم يستعمل لطهارة البدن فالوضوء به جائز فإن غلب عليه غيره حتى يزيل عنه اسم الماء مثل المرق وماء الباقلاء والخل ونحوه ، فإن الوضوء به غير جائز ، وما طبخ بالماء ليكون أنقى له نحو الأشنان والصابون فالوضوء به [ ص: 202 ] جائز إلا أن يكون مثل السويق المخلوط فلا يجزي ، وكذلك إن وقع فيه زعفران أو شيء مما يصبغ بصبغه وغير لونه فالوضوء به جائز لأجل غلبة الماء ) . وقال الماء المستعمل ، ( لا يتوضأ بالماء الذي يبل فيه الخبز ) . وقال مالك : ( إذا توضأ بزردج أو نشاسبتج أو بخل أجزأه ، وكذلك كل شيء غير لونه ) . الحسن بن صالح
وقال : ( إذا بل فيه خبزا وغير ذلك مما لا يقع عليه اسم ماء مطلق حتى يضاف إلى ما خالطه وخرج منه فلا يجوز التطهر به وكذلك الماء الذي غلب عليه الزعفران أو الأشنان ) ؛ وكثير من أصحابه يشرط فيه أن يكون بعض الغسل بغير الماء . الشافعي
قال : الأصل فيه قوله تعالى : أبو بكر فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق إلى قوله : فلم تجدوا ماء فيه الدلالة من وجهين على قولنا :
أحدهما : أن قوله : فاغسلوا عموم في سائر المائعات بجواز إطلاق اسم الغسل فيها .
والثاني : قوله تعالى : فلم تجدوا ماء ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن هذا فيه ماء وإن خالطه غيره ، وإنما أباح الله تعالى التيمم عند عدم كل جزء من ماء ؛ لأن قوله " ماء " اسم منكور يتناول كل جزء منه ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ، وظاهره يقتضي جواز الطهارة به وإن خالطه غيره لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيه ، وأباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن خالطهما شيء من لعابهما وأيضا لا خلاف في جواز الوضوء بماء المد والسيل مع تغير لونه بمخالطة الطين له وما يكون في الصحارى من الحشيش والنبات ، ومن أجل مخالطة ذلك له يرى متغيرا إلى السواد تارة وإلى الحمرة والصفرة أخرى ، فصار ذلك أصلا في جميع ما خالطه الماء إذا لم يغلب عليه فيسلبه اسم الماء . في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته
فإن قيل : إذا كان الماء المنفرد عن غيره لو استعمله للطهارة ولم يكفه ثم اختلط به غيره فكفاه بالذي خالطه نحو ماء الورد والزعفران فقد حصل بعض وضوئه بما لا تجوز الطهارة به مما لو أفرده لم يطهر ، فلا فرق بين اختلاطه بالماء وبين إفراده بالغسل . قيل له : هذا غلط من وجوه :
أحدها : أن ما خالطه من هذه الأشياء الطاهرة التي يجوز استعمالها لغير الطهارة إذا كان قليلا سقط حكمه وكان الحكم لما غلب ، ألا ترى أن اللبن الذي خالطه ماء يسير لا يزول عنه اسم اللبن وأن من شرب من جب قد وقعت فيه قطرة من خمر لا يقال له : شارب خمر ، ولم يجب عليه الحد ؛ لأن ذلك الجزء قد صار مستهلكا فيه فسقط حكمه ؟ كذلك الماء إذا كان هو الغالب والجزء الذي خالطه إذا كان يسيرا سقط حكمه .
ومن جهة أخرى أنه إن كانت العلة ما ذكرت فينبغي أن يجوز [ ص: 203 ] إذا كان الماء الذي استعمله لو انفرد عما خالطه كان كافيا لطهارته ؛ إذ لا فرق بين انفراد الماء في الاستعمال وبين اختلاطه بما لا يوجب تنجيسه ، فإذا كان لو استعمل الماء منفردا عما خالطه من اللبن وماء الولد ونحوه وكان طهورا ، وجب أن يكون ذلك حكمه إذا خالطه غيره ؛ لأن مخالطة غيره له لا تخرجه من أن يكون مستعملا للماء المفروض به الطهارة ؛ فهذا الذي ذكرته يدل على بطلان قولك وهدم أصلك . وأيضا فينبغي أن تجيزه ؛ إذ أكثر غسل أعضائه بذلك الماء ؛ لأنه قد استعمل من الماء في أعضاء الوضوء ما لو انفرد بنفسه كان كافيا .
فإن قيل : قال الله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا فجعل الماء المنزل من السماء طهورا . فإذا خالطه غيره فليس هو المنزل من السماء بعينه فلا يكون طهورا ، قيل له : مخالطة غيره له لا تخرجه من أن يكون الماء هو المنزل من السماء ألا ترى أن اختلاط الطين بماء السيل لم يخرجه من أن يكون الماء الذي فيه هو المنزل بعينه وإن لم يكن وقت نزوله من السماء مخالطا للطين ؟ وكذلك ماء البحر لم ينزل من السماء على هذه الهيئة والوضوء به جائز ؛ لأن الغالب عليه هو الماء المنزل من السماء ، فهو إذا مع اختلاط غيره به متطهر بالماء الذي أنزله الله من السماء وسماه طهورا .
فإن قيل : فيجب على هذا جواز الوضوء بالماء الذي خالطته نجاسة يسيرة ؛ لأنه لم يخرج بمخالطته النجاسة إياه من أن يكون هذا الماء هو المنزل من السماء .
قيل له : الماء المخالط للنجاسة هو باق بحاله لم يصر نجس العين ، فلو لم يكن هناك إلا مخالطة غيره له لما منعنا الوضوء به ولكنا منعنا الطهارة به مع كونه ماء منزلا من السماء من قبل أنه لا نصل إلى استعماله إلا باستعمال جزء من النجاسة ، واستعمال النجاسة محظور ، فإنما منعنا استعمال النجاسة وليس بمحظور علينا استعمال الأشياء الطاهرة وإن خالطت الماء ، فإذا حصل معه استعمال الماء للطهارة جاز ، كمن توضأ بماء القراح ثم مسح وجهه بماء الورد أو بماء الزعفران فلا يبطل ذلك طهارته .
وقد أجاز الوضوء بما ألقي فيه كافور أو عنبر وهو يوجد منه ريحه وبما خالطه ورد يسير ، وإن وقع مثله من النجاسة في أقل من قلتين لم يجز استعماله فليس قياس النجاسة قياس الأشياء الطاهرة إذا خالطت الماء . الشافعي
فإن قيل : يلزمك أن تجيز الوضوء بالماء الذي يخالطه ما يغلب عليه شيء من الأشياء الطاهرة إذا كان الماء لو انفرد كفاء لوضوئه ؛ لأنه لو انفرد جاز ولأنه هو المنزل من السماء في حال المخالطة وإن غلب عليه غيره حتى سلبه إطلاق اسم الماء . قيل له : لا يجب ذلك من قبل أن [ ص: 204 ] غلبة غيره عليه ينقله إلى حكمه ويسقط حكم القليل معه ، بدلالة أن قطرة من خمر لو وقعت في جب ماء فشرب منه إنسان لم يقل : إنه شارب خمر ولا يجب عليه الحد ، ولو أن خمرا صب فيه ماء فمزجت به فكان الخمر هو الغالب لأطلق الناس عليه أنه شارب خمر وكان حكمه في وجوب الحد عليه حكم شاربها صرفا غير ممزوجة .
وأما ماء الورد وماء الزعفران وعصارة الريحان والشجر فلم يمنع الوضوء به من أجل مخالطة غيره ولكن ؛ لأنه ليس بالماء المفروض به الطهارة ولا يتناوله الاسم إلا بتقييد ، كما سمى الله تعالى المني ماء بقوله : ألم نخلقكم من ماء مهين وقال : والله خلق كل دابة من ماء وليس هو من الماء المفروض به الطهارة في شيء .
وأما مذهب في إجازته الوضوء بالخل ونحوه ، فإنه يلزمه إجازته بالمرق وبعصير العنب لو خالطه شيء يسير من ماء ، ولو جاز ذلك لجاز الوضوء بسائر المائعات من الأدهان وغيرها ، وهذا خلاف الإجماع ، ولو جاز ذلك لجاز التيمم بالدقيق والأشنان قياسا على التراب الحسن بن صالح