[ ص: 2 ] باب الفرائض قال : قد كان أهل الجاهلية يتوارثون بشيئين : أبو بكر
أحدهما : النسب ، والآخر : السبب ، فأما ما يستحق بالنسب فلم يكونوا يورثون الصغار ولا الإناث وإنما يورثون من قاتل على الفرس وحاز الغنيمة ، روي ذلك عن ابن عباس في آخرين منهم ، إلى أن أنزل الله تعالى : وسعيد بن جبير ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن إلى قوله تعالى : والمستضعفين من الولدان وأنزل الله تعالى قوله : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه في الجاهلية في المناكحات والطلاق والميراث إلى أن نقلوا عنه إلى غيره بالشريعة ، قال : قلت ابن جريج : أبلغك لعطاء ؟ قال : لم يبلغنا إلا ذلك . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر الناس على ما أدركهم من طلاق أو نكاح أو ميراث
وروى عن حماد بن زيد ابن عون عن قال : " توارث ابن سيرين المهاجرون والأنصار بنسبهم الذي كان في الجاهلية " . وقال عن ابن جريج قال : عمرو بن شعيب ، فما أدرك الإسلام من ربا لم يقبض رد إلى البائع رأس ماله وطرح الربا " . وروى ما كان من نكاح أو طلاق في الجاهلية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك إلا الربا عن حماد بن زيد أيوب عن قال : " بعث الله تعالى سعيد بن جبير محمدا صلى الله عليه وسلم والناس على أمر جاهليتهم إلى أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه ، وإلا فهم على ما كانوا عليه من أمر جاهليتهم " ، وهو على ما روي عن أنه قال : " الحلال ما أحل الله تعالى والحرام ما حرم الله تعالى ، وما سكت عنه فهو عفو " . ابن عباس
فقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يحظره العقل على ما كانوا عليه ، وقد كانت العرب متمسكة ببعض شرائع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وقد كانوا أحدثوا أشياء منها ما يحظره العقل نحو الشرك وعبادة الأوثان ودفن البنات وكثير من الأشياء المقبحة في العقول ، وقد كانوا على أشياء من مكارم الأخلاق وكثير من المعاملات التي لا تحظرها العقول ، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم داعيا إلى التوحيد وترك ما تحظره العقول من عبادة الأوثان ودفن البنات والسائبة والوصيلة والحامي وما كانوا يتقربون به إلى [ ص: 3 ] أوثانهم ، وتركهم فيما لم يكن العقل يحظره من المعاملات وعقود البياعات والمناكحات والطلاق والمواريث على ما كانوا عليه ؛ فكان ذلك جائزا منهم ؛ إذ ليس في العقل حظره ولم تقم حجة السمع عليهم بتحريمه ، فكان أمر مواريثهم على ما كانوا عليه من توريث الذكور المقاتلة منهم دون الصغار ودون الإناث إلى أن أنزل الله تعالى آي المواريث . وكان السبب الذي يتوارثون به شيئين : أحدهما : الحلف ، والمعاقدة ، والآخر : التبني ، ثم جاء الإسلام فتركوا برهة من الدهر على ما كانوا عليه ثم نسخ فمن الناس من يقول إنهم كانوا يتوارثون بالحلف والمعاقدة بنص التنزيل ثم نسخ .
وقال شيبان عن في قوله تعالى : قتادة والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال : " كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك " قال : " فورثوا السدس في الإسلام من جميع الأموال ثم يأخذ أهل الميراث ميراثهم ، ثم نسخ بعد ذلك فقال الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وروى الحسن بن عطية عن أبيه عن في قوله تعالى : ابن عباس ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " كان الرجل في الجاهلية يحلف له الرجل فيكون تابعا له ، فإذا مات صار الميراث لأهله وأقاربه وبقي تابعه ليس له شيء ، فأنزل الله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكان يعطى من ميراثه " .
وقال عن عطاء في قوله تعالى : سعيد بن جبير والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وذلك أن الرجل في الجاهلية وفي الإسلام كان يرغب في خلة الرجل فيعاقده فيقول : ترثني وأرثك ، وأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت ، فلما نزلت هذه الآية في قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله نزلت قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد وقد كنت عاقدت رجلا فمات ؟ فنزلت : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا .
فأخبر هؤلاء السلف أن قد كان حكمه ثابتا في الإسلام من طريق السمع لا من جهة إقرارهم على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية . ميراث الحليف
وقال بعضهم : لم يكن ذلك ثابتا بالسمع من طريق الشرع وإنما كانوا مقرين على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية إلى أن نزلت آية المواريث فأزالت ذلك الحكم ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبد الرحمن عن عن سفيان منصور عن في قوله [ ص: 4 ] تعالى : مجاهد والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال : " كان حلف في الجاهلية فأمروا أن يعطوهم نصيبهم من المشورة والعقل والنصر ولا ميراث لهم " .
قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا معاذ عن ابن عون عن عيسى بن الحارث عن في قوله تعالى : عبد الله بن الزبير وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض قال : " نزلت هذه الآية في العصبات ، كان الرجل يعاقد الرجل يقول : ترثني وأرثك ، فنزلت : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض .
قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عن عبد الله بن صالح معاوية بن إبراهيم عن علي بن أبي طلحة عن في قوله تعالى : ابن عباس والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال : كان الرجل يقول ترثني وأرثك ، فنسختها : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا قال : إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوهم وصية " .
فذكر هؤلاء أن ما كان من ذلك في الجاهلية نسخ بقوله تعالى : وأولو الأرحام وأن قوله تعالى : فآتوهم نصيبهم إنما أريد به الوصية أو المشورة والنصر من غير ميراث ؛ وأولى الأشياء بمعنى الآية تثبيت التوارث بالحلف ؛ لأن قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم يقتضي نصيبا ثابتا لهم ، والعقل والمشورة والوصية ليست بنصيب ثابت ، وهو مثل قوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب المفهوم من ظاهره إثبات نصيب من الميراث ، كذلك قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قد اقتضى ظاهره إثبات نصيب لهم قد استحقوه بالمعاقدة ؛ والمشورة يستوي فيها سائر الناس فليست إذا بنصيب ، فالعقل إنما يجب على حلفائه وليس هو بنصيب له ، والوصية إن لم تكن مستحقة واجبة فليست بنصيب ؛ فتأويل الآية على النصيب المسمى له في عقد المحالفة أولى وأشبه بمفهوم الخطاب مما قال الآخرون .
وهذا عندنا ليس بمنسوخ ، وإنما حدث وارث آخر هو أولى منهم كحدوث ابن لمن له أخ لم يخرج الأخ من أن يكون من أهل الميراث ، إلا أن الابن أولى منه ، وكذلك أولو الأرحام أولى من الحليف ، فإذا لم يكن رحم ولا عصبة فالميراث لمن حالفه وجعله له ؛ وكذلك أجاز أصحابنا . الوصية بجميع المال لمن لا وارث له
وأما فإن الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه ، وقد كان ذلك حكما ثابتا في الإسلام ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم تبنى الميراث بالدعوة والتبني وكان يقال له زيد بن حارثة حتى أنزل الله تعالى : زيد بن محمد ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وقال تعالى : [ ص: 5 ] فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم وقال تعالى : ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وقد كان تبنى أبو حذيفة بن عتبة سالما ، فكان يقال له سالم بن أبي حذيفة ، إلى أن أنزل الله تعالى : ادعوهم لآبائهم
رواه عن الزهري عن عروة ؛ فنسخ الله تعالى الدعوة بالتبني ونسخ ميراثه . عائشة
حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عن عبد الله بن صالح عن ليث عقيل عن قال : أخبرني ابن شهاب في قوله تعالى : سعيد بن المسيب والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال : " إنما أنزل الله تعالى ذلك في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم ، فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة ، وأبى الله أن يجعل للمدعين ميراثا ممن ادعاهم ، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية ، فكان ما تعاقدوا عليه في الميراث الذي رد عليه أمرهم " . ابن المسيب
قال : وجائز أن يكون المراد بقوله تعالى : أبو بكر والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم منتظما للحلف والتبني جميعا ؛ إذ كل واحد منهما يثبت بالعقد ؛ فهذا الذي ذكرنا كان من مواريث الجاهلية وبقي في الإسلام بعضها بالإقرار عليه إلى أن نقلوا عنه وبعضه بنص ورد في إثباته إلى أن ورد ما أوجب نقله .
وأما مواريث الإسلام فإنها معقودة بشيئين :
أحدهما نسب ، والآخر سبب ليس بنسب ؛ فأما المستحق بالنسب فما نص الله تعالى عليه في كتابه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه وأجمعت الأمة على بعضه وقامت الدلالة على بعض ، وأما السبب الذي ورث به في الإسلام فبعضه ثابت وبعضه منسوخ الحكم . فمن الأسباب التي ورث بها في الإسلام ما ذكرنا في عقد المحالفة وميراث الأدعياء ، وقد ذكرنا حكمه ونسخ ما روي نسخه وأن ذلك عندنا ليس بنسخ وإنما جعل وارث أولى من وارث . وكان من الأسباب التي أوجب الله تعالى به الميراث الهجرة ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن في قوله تعالى : ابن عباس إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا قال : " كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ، ولا يرث [ ص: 6 ] الأعرابي المهاجر ، فنسختها : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض . وقال بعضهم : نسخها قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون وكانوا يتوارثون بالأخوة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم " .
وروى عن أبيه : هشام بن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير بن العوام وبين ، فارتث كعب بن مالك يوم أحد ، فجاء به كعب يقوده بزمام راحلته ، ولو مات الزبير عن الضح والريح لورثه كعب الزبير حتى أنزل الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم
وروى عن ابن جريج عن سعيد بن جبير قال : " كان ابن عباس المهاجرون والأنصار يرث الرجل الرجل الذي آخى بينه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أخيه ، فلما نزلت هذه الآية : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون نسخت ، ثم قال تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصر ، والرفادة " . فذكر في هذا الحديث أن قوله تعالى : ابن عباس والذين عقدت أيمانكم أريد به معاقدة الأخوة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم .
وروى عن معمر في قوله تعالى : قتادة ما لكم من ولايتهم من شيء إن المسلمين كانوا يتوارثون بالهجرة والإسلام ، فكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه ، فنسخ الله تعالى ذلك بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . وروى جعفر بن سليمان عن قال : كان الأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئا وإن كان ذا قربى ليحثهم بذلك على الهجرة ، فلما كثر المسلمون أنزل الله تعالى : الحسن وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فنسخت هذه الآية تلك ، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا فرخص الله للمسلم أن يوصي لقرابته من اليهود والنصارى والمجوس من الثلث وما دونه ، كان ذلك في الكتاب مسطورا قال : مكتوبا . فجملة ما حصل عليه التوارث بالأسباب في أول الإسلام التبني والحلف والهجرة والمؤاخاة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخ الميراث بالتبني والهجرة والمؤاخاة ؛ وأما الحلف فقد بينا أنه جعلت القرابة أولى منه ولم ينسخ إذا لم تكن قرابة ، وجائز أن يجعل له جميع ماله أو بعضه ومن ولاء العتاقة والزوجية وولاء الموالاة ، وهو عندنا يجري مجرى الحلف ، وإنما يثبت حكمه إذا لم يكن وارث من ذي رحم أو عصبة . فجميع ما انعقدت عليه مواريث الإسلام السبب والنسب ، والسبب كان على أنحاء مختلفة : [ ص: 7 ] منها المعاقدة بالحلف والتبني ، والأخوة التي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والهجرة والزوجية وولاء العتاقة وولاء الموالاة ، فأما إيجاب الميراث بالحلف والتبني والأخوة التي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فمنسوخ مع وجود العصبات وذوي الأرحام ، وولاء العتاقة والموالاة والزوجية هي أسباب ثابتة يستحق بها الميراث على الترتيب المشروط لذلك . الأسباب التي عقد بها التوارث في الإسلام
وأما فينقسم إلى أنحاء ثلاثة : ذوو السهام والعصبات وذوو الأرحام ، وسنبين ذلك في موضعه . فأما الآيات الموجبة النسب الذي يستحق به الميراث ، فقوله تعالى : لميراث ذوي الأنساب من ذوي السهام والعصبات وذوي الأرحام للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقوله تعالى : وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان نسخ بهما في رواية عن وغيره من ابن عباس السلف ما كان عليه الأمر في توريث الرجال المقاتلة دون الذكور الصغار والإناث .