وقت الظهر وأما أول فهو من حين تزول الشمس ؛ ولا خلاف بين أهل العلم فيه . وقال الله تعالى : وقت الظهر وعشيا وحين تظهرون وقال : أقم الصلاة لدلوك الشمس وقد بينا أن دلوك الشمس تحتمل الزوال والغروب جميعا وهو عليهما ، فتنتظم الآية الأمر بصلاة الظهر والمغرب وبيان أول وقتيهما .
ومن جهة السنة حديث ابن عباس وأبي سعيد وجابر وعبد الله بن عمر وبريدة الأسلمي وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر المواقيت حين أمه وأبي موسى جبريل ، وأنه صلى الظهر حين زالت الشمس ؛ وفي بعضها ابتداء اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : وهي أحاديث مشهورة كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها ؛ فصار أول وقت الظهر معلوما من جهة الكتاب والسنة واتفاق الأمة وأما آخر وقتها فقد اختلف فيه الفقهاء ، فروي عن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس فيه ثلاث روايات : أبي حنيفة
إحداهن : أن يصير الظل أقل من قامتين .
والأخرى ، وهي رواية : أن يصير ظل كل شيء مثله . الحسن بن زياد
والثالثة : أن يصير الظل قامتين ، وهي رواية الأصل . وقال أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح والثوري : " هو أن يصير ظل كل شيء مثله " . وحكي عن والشافعي أن وقت الظهر والعصر إلى [ ص: 252 ] غروب الشمس . مالك
ويحتج لقول من قال بالمثلين في آخر وقت الظهر بظاهر قوله : وأقم الصلاة طرفي النهار وذلك يقتضي فعل العصر بعد المثلين ؛ لأنه كلما كان أقرب إلى وقت الغروب فهو أولى باسم الطرف ، وإذا كان وقت العصر من المثلين فما قبله من وقت الظهر ، لحديث عن الأعمش أبي صالح عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . ويحتج أيضا لهذا القول بظاهر قوله تعالى : إن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد بينا أن الدلوك يحتمل الزوال ، فإذا أريد به ذلك اقتضى ظاهره امتداد الوقت إلى الغروب ، إلا أنه ثبت أن ما بعد المثلين ليس بوقت للظهر ، فوجب أن يثبت إلى المثلين بالظاهر . ويحتج فيه من جهة السنة بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ابن عمر اليهود ثم قال من يعمل لما بين نصف النهار إلى العصر على قيراط ؟ فعملت النصارى ، ثم قال من يعمل لما بين العصر إلى المغرب على قيراطين ؟ فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى فقالوا : كنا أكثر عملا وأقل عطاء قال هل نقصتم من جعلكم شيئا ؟ قالوا : لا ، قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء . ودلالة هذا الخبر على ما ذكرنا من وجهين : أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، ومثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي ما بين غدوة إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت
أحدهما : قوله : وإنما أراد بذلك الإخبار عن قصر الوقت ؛ وقال صلى الله عليه وسلم أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، فأخبر فيه أن الذي بقي من مدة الدنيا كنقصان السبابة عن الوسطى ، وقد قدر ذلك بنصف السبع ، فثبت بذلك حين شبه عليه السلام أجلنا في أجل من مضى قبلنا بوقت العصر في قصر مدته أنه لا ينبغي أن يكون من المثل ؛ لأنه لو كان كذلك لكان أكثر من ذلك ، فدل ذلك على أن بعثت أنا والساعة كهاتين وجمع بين السبابة والوسطى ، وفي خبر آخر : كما بين هذه وهذه بعد المثلين . وقت العصر
والوجه الآخر من دلالة الخبر : المثل الذي ضربه عليه السلام لنا ولأهل الكتابين بالعمل في الأوقات المذكورة ، وأنهم غضبوا فقالوا : كنا أكثر عملا وأقل عطاء ؛ فلو كان وقت العصر في المثل لما كانت النصارى أكثر عملا من المسلمين ، بل كان يكون المسلمون أكثر عملا ؛ لأن ما بين المثل إلى الغروب أكثر مما بين الزوال إلى المثل فثبت بذلك أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر .
فإن قيل : إنما [ ص: 253 ] أراد أن وقتي الفريقين جميعا أطول من وقت المسلمين . قيل له : هذا غلط ؛ لأنه أخبر عن كل واحد من الفريقين بذلك على حياله دون الإخبار عنهما مجموعين ألا ترى أنهم قالوا : كنا أكثر عملا وأقل عطاء ؟ وليسا بمجموعهما أقل عطاء ؛ لأن عطاءهما جميعا هو مثل عطاء المسلمين . ويدل عليه حديث عن عروة بشير بن أبي مسعود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم : جبريل أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله ، فقال : قم فصل الظهر فأخبر أن أن جبريل أتاه بعد المثل فأمره بفعل الظهر ؛ فلو كان ما بعد المثل من وقت العصر لكان قد أخر الظهر عن وقتها .
فإن قيل : في حديث ابن عباس وجابر وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله ، وهذا يوجب أن يكون وقت العصر بعد المثل . قيل له : أما حديث فإنه أخبر فيه عن إمامة ابن عباس جبريل عند باب البيت وذلك قبل الهجرة ، وفيه أنه صلى الظهر من اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس ، وذلك يوجب أن يكون وقت الظهر ووقت العصر واحدا فيما صلاهما في اليومين .
فإن قيل : إنما أراد أنه ابتدأ العصر في وقت فراغه من الظهر من الأمس . قيل له : في حديث أن ابن مسعود جبريل أتاه حين صار ظل كل شيء مثله في اليوم الأول فقال : قم فصل العصر ، وأنه أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال : قم فصل الظهر ؛ فأخبر أن مجيئه إليه وأمره إياه بالصلاة كان بعد المثل ، وهذا يسقط تأويل من تأوله . وإذا كان ذلك كذلك وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : وأبو هريرة وفي حديث وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ، ثبت بذلك أن ما في حديث التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ابن عباس على النحو الذي ذكرنا منسوخ ، وأنه كان قبل الهجرة ، وعلى أنه لو كان ثابت الحكم لوجب أن يكون الفعل الآخر ناسخا للأول ، وأن يكون الآخر منهما ثابتا ؛ والآخر من الفعلين أنه فعل الظهر في اليوم الثاني بعد المثل وذلك يقتضي أن يكون ما بعد المثل من وقت الظهر . وابن مسعود
وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله السائل عن مواقيت الصلاة : أبي موسى ، وكذلك في حديث أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس مرتفعة قبل أن تدخلها الصفرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سليمان بن بريدة ؛ ولا يقال هذا فيمن صلاها حين يصير الظل مثله . وقد ذكر أيضا في حديث صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة : أنه ابن مسعود . رواه جماعة من كبار أصحاب صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة عن الزهري ، منهم [ ص: 254 ] عروة مالك والليث وشعيب وغيرهم ، ورواه ومعمر أيوب عن عتبة عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن ، فذكر فيه مقادير الفيء على نحو ما قدمنا . فحديث عروة يروى على هذين الوجهين ابن مسعود
، فذكر في أحدهما أنه جاءه جبريل عليه السلام حين صار ظل كل شيء مثله فقال : قم فصل الظهر ، وفي اليوم الثاني جاءه حين صار ظل كل شيء مثله فقال : قم فصل العصر .
وحديث عن الزهري لم يذكر فيه مقدار الفيء وذكر أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة لم تدخلها صفرة . وقد رويت أخبار في تعجيل العصر قد يحتج بها من يقول بالمثل ، وفيها احتمال لما قالوه ولغيره ، فلا تثبت بمثلها حجة في إثبات المثل دون غيره ، إذ لا حجة في المحتمل ؛ منها حديث عروة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنس ، قال كان يصلي العصر ، ثم يذهب الذاهب إلى العوالي فيجدهم لم يصلوا العصر : والعوالي على الميلين والثلاثة . الزهري
وروى قال : حدثنا أبو واقد الليثي أبو أروى قال : بالمدينة ، ثم أمشي إلى ذي الحليفة قبل أن تغرب الشمس . وفي حديث كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر عن أسامة بن زيد عن الزهري عن عروة بشير بن أبي مسعود عن أبيه قال : . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس
وروي عن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة . ليس في هذه الأخبار ذكر تحديد الوقت ، وما ذكر من المضي إلى العوالي وذي الحليفة فليس يمكن الوقوف منه على مقدار معلوم من الوقت ؛ لأنه على قدر الإبطاء والسرعة في المشي . وقد كان شيخنا كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن يظهر الفيء وفي لفظ آخر : لم يفئ الفيء بعد أبو الحسن رحمه الله يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم :
على أن ما بعد المثل وقت للظهر ؛ لأن الإبراد لا يكون عند المثل بل أشد ما يكون الحر في الصيف عندما يصير ظل كل شيء مثله . ومن قال بالمثل يجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهجير عند الزوال والفيء قليل في ذلك الوقت ، فكان منهم من يصلي في الشمس أو بالقرب منها ؛ وكذلك قال أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم خباب : فأمرهم أن يصلوها بعدما يفيء الفيء ، فهذا هو الإبراد المأمور به عند من قال بالمثل . وأما ما حكي عن شكونا إلى رسول الله حر الرمضاء فلم يشكنا ، ثم قال : أبردوا بالظهر أن وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس ، فإنه قول ترده الأخبار المروية في المواقيت ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في [ ص: 255 ] اليومين في حديث مالك ابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي سعيد وغيرهم في أول الوقت وآخره ، ثم قال : وأبي موسى ، وفي حديث ما بين هذين وقت عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : وأبي هريرة ، وفي بعض ألفاظ حديث وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر : أبي هريرة ، فغير جائز لأحد أن يجعل وقت العصر وقتا للظهر مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن آخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر . وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر
وقد نقل الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأوقات عملا وقولا ، كما نقلوا وقت الفجر ووقت العشاء والمغرب ، وعقلوا بتوقيفه صلى الله عليه وسلم أن كل صلاة منها مخصوصة بوقت غير وقت الأخرى . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة : . التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى
ولا خلاف أن تارك الظهر لغير عذر حتى يدخل وقت العصر مفرط ؛ فثبت أن للظهر وقتا مخصوصا ، وكذلك العصر ، وأن وقت كل واحدة منهما غير وقت الأخرى ، ولو كان الوقتان جميعا وقتا للصلاتين لجاز أن يصلى العصر في وقت الظهر من غير عذر ولما كان للجمع بعرفة خصوصية ؛ وفي امتناع جواز ذلك لغير عذر عند الجميع دلالة على أن كل واحدة من الصلاتين منفردة بوقتها .
فإن احتجوا بقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وأن الدلوك هو الزوال ، وجعل ذلك كله وقتا للظهر إلى غروب الشمس ؛ لأنه روي في غسق الليل عن جماعة من السلف أنه الغروب . قيل له : ظاهره يقتضي إباحة فعل هذه الصلاة من وقت الزوال إلى غسق الليل ، وقد اتفق الجميع على أن ذلك ليس بمراد وأنه غير مخير في فعل الظهر من وقت الزوال إلى الليل ، فثبت أن المراد صلاة أخرى يفعلها وهي إما العصر وإما المغرب ، والمغرب أشبه بمعنى الآية لاتصال وقتها بغسق الليل الذي هو اجتماع الظلمة ؛ فيكون تقدير الآية : أقم الصلاة لزوال الشمس ، وأقمها أيضا إلى غسق الليل ؛ وهي صلاة أخرى غير الأولى ، فلا دلالة في الآية على أن وقت الظهر إلى غروب الشمس وقد وافق الشافعي في هذا المعنى أيضا من وجه ، وذلك أنه يقول : " مالكا لزمته الظهر والعصر جميعا ، وكذلك الحائض إذا طهرت والصبي إذا بلغ " ؛ وذهب إلى أنه وإن لم يكن وقت اختيار فهو وقت الضرورة والعذر ؛ لأنه يجوز على أصله الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض ونحوه بأن يؤخر الظهر إلى وقت العصر أو يعجل العصر فيصليها في وقت الظهر معها ، فجعل من أجل ذلك الوقت [ ص: 256 ] وقتا لهما في حال العذر والضرورة . من أسلم قبل غروب الشمس
فإن كان هذا اعتبارا صحيحا فإنه يلزمه أن يقول في المرأة إذا حاضت في أول وقت الظهر أن تلزمها صلاة الظهر والعصر جميعا ، كما أنها إذا طهرت في آخر وقت العصر لزمتها صلاة الظهر والعصر جميعا ، وقد أدركت هذه التي حاضت في وقت الظهر من الوقت ما يجوز لها فيه الجمع بين الصلاتين للعذر ؛ وهذا لا يقوله أحد ، فثبت بذلك أن وقت العصر غير وقت الظهر في سائر الأحوال وأنه لا تلزم أحدا صلاة الظهر بإدراكه وقت العصر دون وقت الظهر .