ولما تم الجواب عن أسئلتهم على أحسن الوجوه مخللا بما تراه من الحجج البينة والنفائس الملزمة لهم بفصل النزاع، وأتبع ذلك بقص الأمر الذي بإغفاله تجرؤوا على الكفر، وهو أمر البعث إلى أن ختمه بما يقتضي أن معلوماته لا تحد، لأن مقدوراته في تنعيم أهل الجنة لا آخر لها فلا تعد، وكان اليهود قد اعترضوا على قوله في أولها
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=85وما أوتيتم من العلم إلا قليلا بأنهم أوتوا التوراة، وكان لكل ما سألوا عنه من الفصول الطويلة الذيول أمور تهول، [وكان ربما -] قال قائل: ما له لا يزيد ذلك شرحا؟ قال تعالى آمرا
[ ص: 151 ] بالجواب عن ذلك كله، معلما لهم بأنهم لا يمكنهم الوقوف على تمام شرح شيء من معلوماته، وآخر استفصال شيء من مقدوراته، قطعا لهم عن السؤال، وتقريبا إلى أفهامهم بضرب من المثال:
nindex.php?page=treesubj&link=28902_34091_34513_28989nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109قل أي يا أشرف الخلق لهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109لو كان البحر أي ماؤه على عظمته عندكم
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109مدادا وهو اسم لما يمد به الدواة من الحبر
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109لكلمات أي لكتب كلمات
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109ربي أي المحسن إلي في وصف ذلك وغيره مما تعنتموه في السؤال عما سألتم عنه أو غير ذلك
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109لنفد أي فني مع الضعف فناء لا تدارك له
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109البحر لأنه جسم متناه.
ولما كانت المخلوقات - لكونها ممكنة - ليس لها من ذاتها إلا العدم، وكانت الكلمات من صفات الله، وصفات الله واجبة الوجود، فكان نفادها محالا، فكان نفاد الممكن من البحر وما يمده بالنسبة إليها مستغرقا للأزمنة كلها، جرد الظرف من حرف الجر فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109قبل أن تنفد أي تفنى وتفرغ
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109كلمات ربي لأنها لا تتناهى لأن معلوماته ومقدوراته لا تتناهى، وكل منها له شرح طويل، وخطب جليل; ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109ولو جئنا أي بما لنا من العظمة التي لا تكون لغيرنا
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109بمثله مددا أي له يكتب منه لنفد أيضا، وهذا كله كناية عن عدم النفاد، لأنه تعليق
[ ص: 152 ] على محال عادة كقولهم: لا تزال على كذا ما بل بحر صوفة وما دجى الليل، ونحو هذا، ولعله عبر بجمع السلامة إشارة إلى أن قليلها بهذه الكثرة فكيف بما هو أكثر منه، وذلك أمر لا يدخل تحت وصف، وعبر بالقبل دون أن يقال "ولم تنفد" ونحوه، لأن ذلك كاف في قطعهم عن الاستقصاء في السؤال ولأن التعبير بمثل ذلك ربما فتح بابا من التعنت وهو أن يجعلوا الواو للحال فيجعلوا النفاد مقيدا بذلك، وأما [سورة لقمان] فاقتضى سياقها في تأسيس ما فيها على
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=26الغني الحميد ومقصودها أن يكون التعبير فيها بغير ما هاهنا، فما في كل سورة أبلغ بالنسبة إلى سياقه، مع أنه ليس في إفصاح واحدة منهما ما يدل على نفاد الكلمات ولا عدمه، [و -] في إفهام كل منهما بتدبر القرائن في السياق وغيره ما يقطع بعدم نفادها، ولا تخالف بين الآيتين وإن كان التعبير في هذه السورة أدخل في التشابه، ويجاب عنه بما قالوا في مثل قول الشاعر "على لاحب لا يهتدي بمناره" من أن ما في حيز السلب لا يقتضي الوجود، ولعل التعبير بمثل ذلك من الفتن المميزة بين من في قلبه مرض وبين الراسخ الذي يرد المتشابه إلى المحكم، وهو ما دل عليه البرهان القاطع من أن الله تعالى لا نهاية لذاته، ولا لشيء من
[ ص: 153 ] صفاته، بل هو الأول والآخر الباقي بلا زوال - والله أعلم.
وَلَمَّا تَمَّ الْجَوَابُ عَنْ أَسْئِلَتِهِمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ مُخَلَّلًا بِمَا تَرَاهُ مِنَ الْحُجَجِ الْبَيِّنَةِ وَالنَّفَائِسِ الْمُلْزِمَةِ لَهُمْ بِفَصْلِ النِّزَاعِ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَصِّ الْأَمْرِ الَّذِي بِإِغْفَالِهِ تَجَرَّؤُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ أَمْرُ الْبَعْثِ إِلَى أَنْ خَتَمَهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ مَعْلُومَاتِهِ لَا تُحَدُّ، لِأَنَّ مَقْدُورَاتِهِ فِي تَنْعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا آخِرَ لَهَا فَلَا تُعَدُّ، وَكَانَ الْيَهُودُ قَدِ اعْتَرَضُوا عَلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِهَا
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=85وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا بِأَنَّهُمْ أُوتُوا التَّوْرَاةَ، وَكَانَ لِكُلِّ مَا سَأَلُوا عَنْهُ مِنَ الْفُصُولِ الطَّوِيلَةِ الذُّيُولِ أُمُورٌ تَهُولُ، [وَكَانَ رُبَّمَا -] قَالَ قَائِلٌ: مَا لَهُ لَا يَزِيدُ ذَلِكَ شَرْحًا؟ قَالَ تَعَالَى آمِرًا
[ ص: 151 ] بِالْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، مُعْلِمًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ الْوُقُوفُ عَلَى تَمَامِ شَرْحِ شَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ، وَآخِرِ اسْتِفْصَالِ شَيْءٍ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ، قَطْعًا لَهُمْ عَنِ السُّؤَالِ، وَتَقْرِيبًا إِلَى أَفْهَامِهِمْ بِضَرْبٍ مِنَ الْمِثَالِ:
nindex.php?page=treesubj&link=28902_34091_34513_28989nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109قُلْ أَيْ يَا أَشْرَفَ الْخَلْقِ لَهُمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109لَوْ كَانَ الْبَحْرُ أَيْ مَاؤُهُ عَلَى عَظَمَتِهِ عِنْدَكُمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109مِدَادًا وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُمَدُّ بِهِ الدَّوَاةُ مِنَ الْحِبْرِ
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109لِكَلِمَاتِ أَيْ لِكَتْبِ كَلِمَاتِ
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109رَبِّي أَيِ الْمُحْسِنِ إِلَيَّ فِي وَصْفِ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَعَنَّتُّمُوهُ فِي السُّؤَالِ عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109لَنَفِدَ أَيْ فَنِيَ مَعَ الضَّعْفِ فَنَاءً لَا تَدَارُكَ لَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109الْبَحْرُ لِأَنَّهُ جِسْمٌ مُتَنَاهٍ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْمَخْلُوقَاتُ - لِكَوْنِهَا مُمْكِنَةً - لَيْسَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا إِلَّا الْعَدَمُ، وَكَانَتِ الْكَلِمَاتُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَصِفَاتُ اللَّهِ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ، فَكَانَ نَفَادُهَا مُحَالًا، فَكَانَ نَفَادُ الْمُمْكِنِ مِنَ الْبَحْرِ وَمَا يَمُدُّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا مُسْتَغْرِقًا لِلْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا، جَرَّدَ الظَّرْفَ مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ أَيْ تَفْنَى وَتَفْرَغَ
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109كَلِمَاتُ رَبِّي لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاهَى لِأَنَّ مَعْلُومَاتِهِ وَمَقْدُورَاتِهِ لَا تَتَنَاهَى، وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ شَرْحٌ طَوِيلٌ، وَخَطْبٌ جَلِيلٌ; وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ غَيْرُهُ يَقْدِرُ عَلَى إِمْدَادِ الْبَحْرِ قَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109وَلَوْ جِئْنَا أَيْ بِمَا لَنَا مِنَ الْعَظَمَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ لِغَيْرِنَا
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109بِمِثْلِهِ مَدَدًا أَيْ لَهُ يُكْتَبُ مِنْهُ لَنَفِدَ أَيْضًا، وَهَذَا كُلُّهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ النَّفَادِ، لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ
[ ص: 152 ] عَلَى مُحَالٍ عَادَةً كَقَوْلِهِمْ: لَا تَزَالُ عَلَى كَذَا مَا بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً وَمَا دَجَى اللَّيْلُ، وَنَحْوِ هَذَا، وَلَعَلَّهُ عَبَّرَ بِجَمْعِ السَّلَامَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ قَلِيلَهَا بِهَذِهِ الْكَثْرَةِ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وَصْفٍ، وَعَبَّرَ بِالْقَبْلِ دُونَ أَنْ يُقَالَ "وَلَمْ تَنْفَدْ" وَنَحْوُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي قَطْعِهِمْ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي السُّؤَالِ وَلِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ رُبَّمَا فَتَحَ بَابًا مِنَ التَّعَنُّتِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلُوا الْوَاوَ لِلْحَالِ فَيَجْعَلُوا النَّفَادَ مُقَيَّدًا بِذَلِكَ، وَأَمَّا [سُورَةُ لُقْمَانَ] فَاقْتَضَى سِيَاقُهَا فِي تَأْسِيسِ مَا فِيهَا عَلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=26الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَمَقْصُودُهَا أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ فِيهَا بِغَيْرِ مَا هَاهُنَا، فَمَا فِي كُلِّ سُورَةٍ أَبْلَغُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سِيَاقِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي إِفْصَاحِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَفَادِ الْكَلِمَاتِ وَلَا عَدَمِهِ، [وَ -] فِي إِفْهَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِتَدَبُّرِ الْقَرَائِنِ فِي السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ مَا يَقْطَعُ بِعَدَمِ نَفَادِهَا، وَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ التَّعْبِيرُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَدْخَلَ فِي التَّشَابُهِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا قَالُوا فِي مِثْلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ "عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ" مِنْ أَنَّ مَا فِي حَيِّزِ السَّلْبِ لَا يَقْتَضِي الْوُجُودَ، وَلَعَلَّ التَّعْبِيرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَبَيْنَ الرَّاسِخِ الَّذِي يَرُدُّ الْمُتَشَابِهَ إِلَى الْمُحْكَمِ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا نِهَايَةَ لِذَاتِهِ، وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ
[ ص: 153 ] صِفَاتِهِ، بَلْ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ الْبَاقِي بِلَا زَوَالٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.