الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأما الجدار الذي أشرت بأخذ الأجر عليه فكان لغلامين ودل على كونهما دون البلوغ بقوله يتيمين

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة، وكان التعبير بالقرية أولا أليق، لأنها مشتقة من معنى الجمع، فكان أليق بالذم في ترك الضيافة لإشعاره ببخلهم حالة الاجتماع وبمحبتهم للجمع والإمساك، وكانت المدينة بمعنى الإقامة، فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يقيمون فيها، فينهدم الجدار وهم مقيمون فيأخذون الكنز، قال: في المدينة فلذلك أقمته احتسابا وكان تحته كنـز أي مال مدخور "لهما" لو وقع لكان أقرب إلى ضياعه وكان أبوهما صالحا ينبغي مراعاته وخلفه في ذريته بخير.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإبلاغ إلى حد البلوغ والاستخراج فعل الله وحده، أسند إليه خاصة فقال: فأراد ربك أي المحسن إليك بهذه التربية، إشارة إلى ما فعل بك من مثلها قبل النبوة كما بين أن يبلغا أي الغلامان أشدهما أي رشدهما وقوتهما ويستخرجا كنـزهما لينتفعا به وينفعا الصالحين رحمة بهما من ربك [ ص: 123 ] أي الذي أحسن تربيتك وأنت في حكم [اليتيم -] فكان التعب في إقامة الجدار مجانا أدنى من الضرر اللازم من سقوطه لضياع الكنز وفساد الجدار، وقد دل هذا على أن صلاح الآباء داع إلى العناية بالأبناء، روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال لبعض الخوارج [في كلام -] جرى بينهما: بم حفظ الله كنز الغلامين؟ قال: بصلاح أبيهما، قال فأبي وجدي خير منه، قال أنبأنا الله أنكم قوم خصمون. وما فعلته أي شيئا من ذلك عن أمري بل عن أمر من له الأمر، وهو الله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بان سر تلك القضايا، قال مقدرا للأمر: "ذلك" أي الشرح العظيم تأويل ما لم تسطع يا موسى عليه صبرا وحذف تاء الاستطاعة هنا لصيرورة ذلك - بعد كشف الغطاء - في حيز ما يحمل فكان منكره غير صابر أصلا لو كان عنده مكشوفا من أول الأمر، وسقط - ولله الحمد - بما قررته في هذه القصة ما يقال من أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر في قول سليمان [ ص: 124 ] عليه السلام المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن تلد فارسا [يجاهد -] في سبيل الله، فلم تلد منهن إلا واحدة جاءت بشق آدمي" أنه لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا فرسانا أجمعون" فأفهم ذلك أن كل نبي استثنى في خبره صدقه الله تعالى كما وقع للذبيح أنه قال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين فوفى، فما لموسى عليه السلام - وهو من أولي العزم - فعل مع الاستثناء ما فعل؟ فإن الذبيح صبر على ما هو قاطع بأنه بعينه أمر الله، بخلاف موسى عليه السلام فإنه كان ينكر ما ظاهره منكر قبل العلم بأنه من أمر الله، فإذا نبه صبر، وأما قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "يرحم الله أخي موسى! وددنا لو أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما" فمعناه: صبر عن الإذن للخضر عليه السلام في مفارقته في قوله فلا تصاحبني ويدل عليه أن في رواية لمسلم "رحمة الله علينا وعلى موسى! لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه [ ص: 125 ] أخذته [من صاحبه -] ذمامة "قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني". فتحرر أنه وفى بمقام الشرع الذي أقامه الله [فيه -] فلم يخل بمقام الصبر الذي [ليس -] فيه ما يخالف ما يعرف ويستحضر من الشرع، وكيف لا وهو من أكابر أولي العزم الذين قال الله تعالى لأشرف [خلقه -] في التسليك بسيرهم فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وقال تعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وقال عليه السلام فيما خرجه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوذي من بعض من كان معه في حنين فتلون وجهه وقال: "يرحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر". وعلم أن في قصته هذه حثا كثيرا على المجاهرة بالمبادرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمصابرة عليه، وأن لا يراعى فيه كبير ولا صغير إذا كان المرء على ثقة من أمره في الظاهر بما عنده في ذلك من العلم عن الله ورسوله وأئمة دينه، وتنبيها على أنه لا يلزم من العلم اللدني - سواء كان صاحبه نبيا أو وليا - معرفة كل شيء كما يدعيه أتباع بعض الصوفية، لأن الخضر سأل موسى عليهما السلام: [ ص: 126 ] من أنت؟ وهل هو موسى نبي بني إسرائيل - كما سيأتي. روى البخاري في التفسير من روايات مختلفة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبي بن كعب رضي الله عنه حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "موسى رسول الله - عليه وعلى آله وسلم - ذكر الناس [يوما -] حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال: أي رسول الله! هل في الأرض [أحد -] أعلم منك؟ قال: لا! فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى إليه: بلى! عبد من عبادي بمجمع البحرين، قال: أي رب! كيف السبيل إليه؟ [قال -]: تأخذ حوتا في مكتل فحيث ما فقدته فاتبعه - وفي رواية: خذ نونا ميتا حيث ينفخ فيه الروح - فخرج ومعه فتاه يوشع بن نون حتى انتهيا إلى الصخرة، فوضع موسى رأسه فنام في ظل الصخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت - وفي رواية: [و -] في أصل تلك الصخرة عين يقال له الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين فانسل من المكتل فدخل البحر - فأمسك الله عنه جرية [ ص: 127 ] البحر حتى كان أثره في حجر، فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، فذكر سفرهما وقول موسى عليه السلام لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال: قد قطع الله عنك النصب، فرجعا فوجدا خضرا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضي من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى! قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم! قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني، قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي [يأتيك -]؟ يا موسى! إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه - أي لا ينبغي لك أن تعمل بالباطن ولا ينبغي [لي أنا -] أن أقف مع الظاهر، أطلق العلم على العمل لأنه سببه - فانطلقا يمشيان على الساحل، فوجدوا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر، فعرف الخضر فقالوا: عبد الله الصالح! لا تحمله بأجر، فحملوهم في سفينتهم بغير نول: بغير أجر - فركبا السفينة، ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر; وفي رواية: فأخذ بمنقاره من البحر، [ ص: 128 ] وفي رواية: فنقر نقرة أو نقرتين فقال: والله ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا من البحر، فلم يفجأ موسى إلا الخضر عمد إلى قدوم فخرق السفينة ووتد فيها وتدا فذكر إنكاره وجوابه ثم قال: وكانت الأولى من موسى نسيانا، والوسطى شرطا، والثالثة عمدا - فذكر القصة، وقال في آخرها: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى صبر حتى يقص علينا من أمرهما" .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية