ولما أظهر سبحانه سوط العذاب بيد القدرة ، دل على وطأ العدل بثمرة الغنى ، ولكونه في سياق الرحمة بالإرسال عبر بالربوبية فقال : وما كان [أي : ] كونا ما ربك أي : المحسن إليك بالإحسان بإرسالك إلى الناس مهلك القرى أي : هذا الجنس كله بجرم وإن عظم حتى يبعث في أمها أي : أعظمها وأشرفها ، لأن غيرها تبع لها ، ولم يشترط كونه من أمها فقد كان عيسى عليه الصلاة والسلام من الناصرة ، وبعث في بيت المقدس رسولا يتلو عليهم أي : أهل القرى كلهم آياتنا الدالة -بما لها من الجري على مناهيج العقول- على ما ينبغي لنا من الحكمة ، وبما لها من الإعجاز - على تفرد الكلمة- وباهر العظمة ، إلزاما للحجة ، وقطعا للمعذرة ، لئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت [ ص: 330 ] إلينا رسولا ولذلك لما أردنا عموم الخلق بالرسالة جعلنا الرسول من أم القرى كلها ، وهي مكة البلد الحرام ، وفيها لأنها مع كونها مدينة تجري فيها الأمور على قانون الحكمة [هي] في بلاد البوادي تظهر فيها الكلمة ، فجمعت الأمرين لأن المرسل إليها جامع ، وجازت الأثرين لأن الختام به واقع ، وكان السر في جعل المؤيد لدينه عيسى عليهما الصلاة والسلام من البادية كثرة ظهور الكلمة على يديه.
ولما غيا الإهلاك بالإرسال تخويفا ، ضرب له غاية أخرى تحريرا للأمر وتعريفا ، ولكونه في سياق التجرؤ من أهل الضلال ، على مقامه العال ، بانتهاك الحرمات ، عبر بأداة العظمة فقال : وما كنا أي : بعظمتنا وغنانا مهلكي القرى أي : كلها ، بعد الإرسال إلا وأهلها ظالمون أي : عريقون في الظلم بالعصيان ، بترك ثمرات الإيمان .