ولما ختم بصفتي الحكمة والخبرة ، كان كأنه قيل : فلم لم يعلم أنا نكذبك بخبرته فيرسل معك بحكمته من يشهد لك - على ما يقول من أنه أمرك أن تكون أول من أسلم ، ونهاك عن الشرك لنصدقك - من ملك كما تقدم سؤالنا لك فيه أو كتاب في قرطاس أو غيرهما؟ فقال : قد فعل ، ولم يرض لي إلا بشهادته المقدسة فقال - أو يقال : إنه لما أقام الأدلة على الوحدانية والقدرة ووصل إلى صفة القهر المؤذن بالانتقام ، لم يبق إلا الإشهاد عليهم إيذانا بما يستحقونه من سوء العذاب وإنذارا به لئلا يقولوا إذا حل بهم : إنه لم يأتنا نذير ، فقال : قل أي : يا أيها الرسول لهم أي شيء أكبر أي : أعظم وأجل شهادة فإن أنصفوا وقالوا : الله! فقل : هو الذي يشهد لي ، كما قال في النساء لكن الله يشهد بما أنـزل إليك ولكنه قطع الكلام هنا إشارة إلى عنادهم أو سكوتهم ، أو إلى تنزيلهم منزلة المعاند ، أو العالم بالشيء العامل عمل الجاهل ، فقال آمرا له - صلى الله عليه وسلم - : قل الله أي : الملك الأعظم المحيط علما وقدرة أكبر شهادة .
[ ص: 41 ] ولما كانوا بمعرض أن يسلموا ذلك ويقولوا : إنه لكذلك ، ولكن هلم شهادته ! قال : شهيد أي : هو أبلغ شاهد يشهد بيني وبينكم أي : بهذا القرآن الذي ثبت بعجزكم عنه أنه كلامه ، وبغيره من الآيات التي عجزتم عن معارضتها ، ولما قرر أنه أعظم شهيد ، وأشار إلى شهادته بالآيات كلها - نبه على أعظمها ؛ لأن إظهاره تعالى للقرآن على لسانه - صلى الله عليه وسلم - على وفق دعواه شهادة من الله له بالصدق ، فقال ذاكرا لفائدته في سياق تهديد متكفل بإثبات الرسالة وإثبات الوحدانية ، وقدم الأول ؛ لأنه المقرر للثاني والمفهم له بغايته ، عاطفا على جملة ( شهيد ) بانيا للمفعول ، تنبيها على أن الفاعل معروف للإعجاز ، وبنى للفاعل في السواد : وأوحي إلي وحقق الموحى به وشخصه بقوله : هذا القرآن ولما كان في سياق التهديد قال مقتصرا على ما يلائمه : لأنذركم أي : أخوفكم وأحذركم من اعتقاد شائبة نقص في الإله لا سيما الشرك به ومن أي : وأنذر به كل من بلغ أي : بلغه ، قال : الفراء والعرب تضمر الهاء في صلات : ( الذي) و ( من ) و ( ما) . وقال في آخر الصحيح : البخاري لأنذركم به [ ص: 42 ] يعني : أهل مكة ، ومن بلغ هذا القرآن فهو له نذير ، علقه بصيغة الجزم عن ووصله إليه ابن عباس كما أفاده شيخنا في شرحه . وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قتادة بلغوا عن الله ، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله . وقال الإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي في جواب سؤال ورد عليه سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة في أن - ومن خطه نقلت : الكتاب والسـنة ناطقان بذلك ، والإجماع قائم عليه ، لا خلاف بين المسلمين فيه ، ثم أسند الإجماع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هل بعث إلى الجن أبي طالب القضاعي في (التمهيد) وأبي عمر بن عبد البر وأبي محمد بن حزم في كتاب : (الفصل) ... وغيرهم ، ثم قال : أما الكتاب فآيات ، إحداها لأنذركم به ومن بلغ قال من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال محمد بن كعب القرظي : - فذكره ، وقال [ ص: 43 ] ابن عباس من بلغ القرآن فهو له نذير ، وقال السدي : ابن زيد : من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره . وهذه كلها أقوال متفقة المعنى ، وقد أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول هذا الكلام وأن ينذر بالقرآن كل من بلغه ، ولم يخص إنسا ولا جنا من أهل التكليف ، ولا خلاف أن انتهى . وسيأتي مما ذكر من الآيات وغيرها ما يليق بالاستدلال على الإرسال إلى الملائكة - عليهم السلام - فالمعنى : فمن صدق هذا القرآن فقد أفلح ، ومن كذب فليأت بسورة من مثله ، ثم عجزه شاهد على نفسه بالكذب ، وهو شهادة الله لي بالصدق ، ولأجل أن الله هو الشاهد لم تنقض الشهادة بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - بل استمرت على مر الأيام وكر الأعوام لبقاء الشاهد وتعاليه عن شوائب النقص وسمات الحدث ، وإلى ذلك الإشارة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الجن مكلفون . ) أخرجه الشيخان ، عن ( ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة - رضي الله عنه - . ولعل الاقتصار على الإنذار مع ما تقدم إشارة إلى أن أكثر الخلق هالك ، وقد ذكر في نزول هذه الآية أن أهل أبي هريرة مكة أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أما وجد الله رسولا غيرك ؟ ما نرى أحدا يصدقك بما تقول ، [ ص: 44 ] ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس عندهم منك ذكر ، فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم ، فأنزلها الله .
ولما لم يبق لمتعنت شبهة ، ساق فذلكة ذلك وقطب دائرته - وهو لزوم التوحيد الذي جعلت الرسالة مرقى إليه ، فإذا ثبت في قلب فاضت أنواره بحسب ثباته حتى إنها ربما ملأت الأكوان وعلت على كيوان - مساق استفهام على طريقة الإنكار والتعجيب تعظيما لشأنه وتفخيما لمقامه وتنبيها لهم على أن يبعدوا عن الشرك فقال : أإنكم لتشهدون أن مع الله أي : الذي حاز جميع العظمة آلهة
ولما كانوا لكثرة تعنتهم ربما أطلقوا على أسمائه - سبحانه - إله ، كما قالوا حين سمعوه - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( يا الله يا رحمن ) كما سيأتي إن شاء الله تعالى آخر الحجر وآخر سبحان - صرح بالمقصود على وجه لا يحتمل النزاع ، فقال : أخرى ولما كان كأنه قيل : إنهم ليقولون ذلك ، فماذا يقال لهم؟ قال : قل لا أشهد أي : معكم بشيء مما تقولونه لأنه باطل ، ولو كان حقا لشهدت به .
ولما كان هذا غير قاطع لطمعهم فيه - اجتثه من أصله وبرمته بقوله : قل إنما هو أي : الإله إله واحد وهو الله الذي [ ص: 45 ] لا يعجزه شيء وهو يعجز كل شيء ؛ لأنه واحد لا كفؤ له ، فإنكم عجزتم عن الإتيان بسورة من مثل كلامه وأنتم أفصح الناس .
ولما كان معنى هذا البراءة من إنذارهم - صرح به في قوله مؤكدا في جملة اسمية : وإنني بريء مما تشركون أي : الآن وفي مستقبل الزمان إبعادا من تطمعهم أن تكون الموافقة بينه وبينهم باتخاذه الأنداد أو شيئا منها وليا ، فثبت التوحيد بهذه الآية بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد ، ولقد امتثل - صلى الله عليه وسلم - الأمر بإنذار من يمكن إبلاغه القرآن ، فلما استراح عن حرب قريش وكثير ممن حوله من العرب في عام الحديبية ، وهو سنة ست من الهجرة ، وأعلمه الله تعالى أن ذلك فتح مبين - أرسل إلى من يليه من ملوك الأمصار في ذلك العام وما بعده ، وكان أكثر عند منصرفه من [ذلك] الاعتمار يدعوهم إلى جنات وأنهار في دار القرار ، وينذرهم دار البوار ، قال أهل السير : خرج - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه من عمرة الحديبية التي صد عنها - على أصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين - فقال : ( أيها الناس! إن الله بعثني رحمة وكافة ، وإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم ) وقال ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن عبد الرحمن بن عبد القادر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام ذات يوم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وتشهد [ ص: 46 ] ثم قال : ( أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك العجم ، فأدوا عني يرحمكم الله ، ولا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون )
وقال ابن عبد الحكم : اختلف بنو إسرائيل - على عيسى ابن مريم - عليهما السلام - فقال المهاجرون : يا رسول الله! والله لا نختلف عليك في شيء أبدا ، فمرنا وابعثنا ، فسألوه : كيف اختلف الحواريون على عيسى - عليه السلام ؟ قال : دعاهم إلى الذي - وفي رواية - : لمثل الذي دعوتكم إليه ، وقال ابن عبد الحكم : إن الله - تبارك وتعالى - أوحى إلى عيسى - عليه السلام - أن ابعث إلى مقدس الأرض ، فبعث الحواريون - فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم ، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل - قال ابن عبد الحكم : وقال : لا أحسن كلام من تبعثني إليه - فشكا ذلك عيسى - عليه السلام - إلى الله - عز وجل - فأصبح كل رجل - وقال ابن عبد الحكم : فأوحى الله تعالى إليه أني سأكفيك ، فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم - يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها . فقال عيسى - عليه السلام - : هذا أمر قد عزم الله عليه فامضوا له . وقال الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي - في القاموس - : إن المكان الذي جمع فيه عيسى - عليه السلام - الحواريين وأنفذهم إلى النواحي - قرية بناحية طبرية تسمى الكرسي . وقال وحدثني ابن إسحاق : يزيد بن أبي حبيب [ ص: 47 ] المصري أنه وجد كتابا فيه ذكر من بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البلدان وملوك [ العرب و] العجم وما قال لأصحابه حين بعثهم ، قال : فبعث به إلى فعرفه - فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال : قال محمد بن شهاب الزهري : وكان من بعث ابن إسحاق عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - من الحواريين والأتباع الذين كانوا بعدهم في الأرض بطرس الحواري ومعه بولس - وكان [ بولس ] من الأتباع ولم يكن من الحواريين - إلى رومية ، وأندرائس ومنتا إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق وقيبليس إلى قرطاجنة ، وهي إفريقية ، ويحنس إلى أقسوس قرية [الفتية] أصحاب الكهف ، ويعقوبس إلى أوراشلم وهي إيلياء قرية بيت المقدس ، وابن ثلما إلى الأعرابية ، وهي أرض الحجاز ، وسيمن إلى أرض البربر ، ويهودا ولم يكن من الحواريين ، جعل مكان يودس . انتهى . كذا رأيت في [ ص: 48 ] نسخة معتمدة مقابلة من تهذيب السيرة وكذا في مختصرها للإمام لابن هشام ، جمال الدين محمد بن [المكرم] الأنصاري عدد رسله وأسمائهم ، وفي آخرهم : قوله : مكان يودس ، ولم يتقدم ليودس ذكر ، والذي حررته أنا من الأناجيل التي بأيدي النصارى غير هذا ، ولعله أصح ، وقد جمعت ما تفرق من ألفاظها ، [قال] في إنجيل متى ما نصه : ومعظم السياق له : ودعا - يعني : عيسى - عليه السلام - تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا على جميع الأرواح [النجسة] لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض; وفي إنجيل مرقس : وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه ، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه ولكي يرسلهم ليكرزوا ، وأعطاهم سلطانا على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين ، وفي إنجيل لوقا : وكان في تلك الأيام خرج إلى الجبل يصلي ، وكان ساهرا في صلاة الله ، فلما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر ، وقال في موضع آخر : ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطانا على جميع الشياطين وشفاء المرضى ، وأرسلهم يكرزون بملكوت الله ويشفون الأوجاع ;
وهذه أسماء الاثني عشر الرسل : سمعان المسمى بطرس ، ونسبه في موضع من إنجيل [ متى ] : ابن يونا ، وأندراوس أخوه ، ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه [ ص: 49 ] قال في إنجيل مرقس : وسماهما باسمي بوانرجس اللذين ابنا الرعد ، وفيلبس وبرثولوماوس ، وتوما ومتى الشعار ، ويعقوب بن حلفي ، ولباوس الذي يدعى تداوس ، وجعل في إنجيل مرقس بدل هذا : تدى ، وفي إنجيل لوقا بدلهما : يهوذا بن يعقوب ، ثم اتفقوا : وسمعان القاناني ، وقال في إنجيل لوقا : المدعو الغيور ، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه - أي : دل عليه في الليلة التي ادعى اليهود القبض عليه فيها - هؤلاء الاثنا عشر الرسل الذين أرسلهم يسوع - وفي إنجيل مرقس : ودعا الاثني عشر وجعل يرسلهم اثنين اثنين ، وأعطاهم السلطان على الأرواح النجسة - قائلا : لا تسلكوا طريق الأمم ، ولا تدخلوا مدينة السامرة ، وانطلقوا خاصة إلى الخراف التي ضلت من بيت إسرائيل ، وإذا ذهبتم فاكرزوا وقولوا : قد اقتربت ملكوت السماوات ، اشفوا المرضى ، أقيموا الموتى ، طهروا البرص ، أخرجوا الشياطين ، مجانا أخذتم مجانا أعطوا ، لا تكنزوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم ولا هميانا في الطريق ولا ثوبين ولا حذاء ولا عصى ، والفاعل [ ص: 50 ] مستحق طعامه ، وفي إنجيل مرقس : وأمرهم أن لا يأخذوا في الطريق غير عصى فقط ولا هميانا ولا خبزا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقهم إلا نعالا في أرجلهم ولا يلبسوا قميصين; وفي إنجيل لوقا : وقال لهم : لا تحملوا في الطريق شيئا ، لا عصى ولا هميانا ولا خبزا ولا فضة ، ولا يكون لكم ثوبان ، وأي مدينة أو قرية دخلتموها فحصوا فيها عمن يستحقكم ، وكونوا هناك حتى تخرجوا ، فإذا دخلتم إلى البيت فسلموا عليه ، فإن كان البيت مستحقا لسلامكم فهو يحل عليه ، وإن كان لا يستحق فسلامكم راجع إليكم ، ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فإذا خرجتم من ذلك البيت وتلك القرية أو تلك المدينة انفضوا غبار أرجلكم; وفي إنجيل مرقس : وقال لهم : أي بيت دخلتموه أقيموا فيه إلى أن تخرجوا منه ، وأي موضع لم يقبلكم ولم يسمع منكم فإذا خرجتم من هناك فانفضوا الغبار الذي تحت أرجلكم للشهادة عليهم ، الحق أقول لكم! إن الأرض سدوم وعامورا راحة في يوم الدين أكثر من تلك [ ص: 51 ] المدينة ، هو ذا أنا مرسلكم كالخراف بين الذئاب ، كونوا حكماء كالحية وودعاء كالحمام ، احذروا من الناس ، فإنهم يسلمونكم إلى المحافل ، وفي مجامعهم يضربونكم ، ويقدمونكم إلى القواد والملوك من أجلى شهادة لهم وللأمم - وفي إنجيل مرقس : شهادة عليهم وعلى كل الأمم ، ينبغي أولا أن يكرزوا بالإنجيل - فإذا أسلموكم فلا تهتموا بما تقولون - وفي إنجيل مرقس : ولا ماذا تجيبون - فإنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به ، ولستم أنتم المتكلمين لكن روح أبيكم - وفي إنجيل مرقس : لكن روح القدس يتكلم فيم - وسيسلم الأخ أخاه إلى الموت والأب ابنه ، ويقوم الأبناء على آبائهم فيقتلونهم ، وتكونون مبغوضين من الكل من أجل اسمي ، والذي يصبر إلى المنتهى يخلص ، فإذا طردوكم من هذه المدينة اهربوا إلى أخرى ، الحق الحق أقول لكم! إنكم لا تكلمون مدائن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان ، ليس تلميذ أفضل من معلمه ، ولا عبد أفضل من سيده ، وحسب التلميذ أن يكون مثل معلمه والعبد مثل سيده ، إن كانوا سموا رب البيت باعل زبول فكم بالحري أهل بيته! فلا تخافوهم ، فليس خفي إلا سيظهر ولا مكتوم إلا سيعلم ، الذي أقول لكم [ ص: 52 ] في الظلمة قولوه أنتم في النور ، وما سمعتموه بآذانكم فاكرزوا به على السطوح ، ولا تخافوا ممن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس ، خافوا ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد جميعا في جهنم ، [أليس] عصفوران يباعان بفلس ، وواحد منهما لا يسقط على الأرض دون إرادة أبيكم ، وأنتم فشعور رؤوسكم كلها محصاة ، فلا تخافوا ، فإنكم أفضل من عصافير كثيرة ، لا تظنوا أني جئت لألقى على الأرض سلامة ، لكن سيفا ، أتيت لأفرق الإنسان من أبيه والابنة من أمها ، والعروس من حماتها ، وأعداء الإنسان أهل بيته ، من أحب أبا أو أما أكثر مني فما يستحقني ، ومن وجد نفسه فليهلكها ، ومن أهلك نفسه من أجلي وجدها ، ومن قبلكم فقد قبلني ، ومن قبلني فهو يقبل الذي أرسلني ، ومن يقبل نبيا باسم نبي فأجر نبي يأخذ ، ومن يأخذ صديقا باسم صديق فأجر صديق يأخذ ، ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ - الحق أقول لكم - إن أجره لا يضيع ، ولما أكمل يسوع أمره لتلاميذه الاثني عشر - انتقل من هناك ليعلم ويكرز [ ص: 53 ] في مدنهم.
وفي إنجيل مرقس : فلما خرجوا - يعني : الرسل - كرزوا بالتوبة وأخرجوا شياطين كثيرة ومرضى عديدة يدهنونهم بالزيت فيشفون; وفي إنجيل لوقا : ومن بعد هذا أيضا ميز الرب سبعين آخرين ويرسلهم اثنين اثنين قدام وجهه إلى كل مدينة وموضع أزمع أن يأتيه ، وقال لهم : إن الحصاد كثير والفعلة قليلون ، اطلبوا من رب الحصاد ليخرج فعلة لحصاده; وفي إنجيل متى ما ظاهره أن هذا الكلام كان للاثني عشر ، فإنه قال قبل ذكر عددهم : فلما رأى الجمع تحنن عليهم لأنهم كانوا ضالين ومطرحين كالخراف التي ليس لها راع ، حينئذ قال لتلاميذه الاثني عشر - إلى آخر ما ذكرته عنه أولا ، فيجمع بأنه قاله للفريقين - رجع إلى السياق الأول : اذهبوا ، وهو ذا أرسلكم كالخراف بين الذئاب ، لا تحملوا هميانا ولا حذاء ولا مزودا ولا تقبلوا أحدا في الطريق ، وأي بيت دخلتموه فقولوا أولا : سلام لأهل هذا البيت ، فإن كان هناك ابن سلامكم فإن سلامكم يحل [ ص: 54 ] عليه ، وإلا فسلامكم راجع إليكم ، وكونوا في ذلك [البيت] ، كلوا واشربوا من عندهم ، فإن الفاعل مستحق أجرته ، ولا تنتقلوا من بيت إلى بيت ، وأي مدينة دخلتموها ويقبلكم أهلها فكلوا مما يقدم لكم ، واشفوا المرضى الذين فيها ، وقولوا لهم : قد قربت ملكوت الله ، وأي مدينة دخلتموها ولا يقبلكم أهلها فاخرجوا من شوارعها وقولوا لهم : نحن ننفض لكم الغبار الذي لصق بأرجلنا من مدينتكم ، لكن اعلموا أن ملكوت الله قد قربت ، أقول لكم : إن سدوم في ذلك اليوم لها راحة أكثر من تلك المدينة ، الويل لك يا كورزين! والويل لك يا بيت صيدا ! لأنه لو كان في صور وصيدا القوات التي كن فيكما جلسوا وتابوا بالمسوح والرماد ، وأما صور وصيدا فلهما راحة في الدينونة أكثر منكم ، وأنت يا كفر ناحوم لو أنك ارتفعت إلى السماء سوف تهبطين إلى الجحيم ، من سمع منكم فقد سمع مني ، ومن جحدكم فقد جحدني ، [ومن جحدني] فقد شتم الذي أرسلني; فرجع السبعون بفرح قائلين : يا رب ! الشياطين باسمك تخضع لنا يا رب ، فقال لهم : قد رأيت الشيطان سقط من السماء مثل البرق ، وهو ذا قد أعطيتكم [ ص: 55 ] سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ، ولا يضركم شيء ، ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم ، افرحوا لأن أسماءكم مكتوبة في السماوات ، وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح ، والتفت إلى تلاميذه خاصة وقال : طوبى للأعين التي ترى ما رأيتم ! أقول لكم : إن أنبياء كثيرين وملوكا اشتهوا أن ينظروا ما نظرتم فلم ينظروا ، ويسمعوا ما سمعتم فلم يسمعوا; وفي إنجيل متى - بعد ما ادعى اليهود صلبه - أنه ظهر لتلاميذه الأحد عشر - وهم من تقدم غير يهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه - في الجليل في الجبل الذي أمرهم به يسوع ، وكلمهم قائلا : أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض ، فاذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم; وفي آخر إنجيل مرقس أنه ظهر لهم وهم مجتمعون ، وكانوا في تلك الأيام يبكون وينوحون فبكتهم لقلة إيمانهم وقسوة قلوبهم وقال لهم : امضوا إلى العالم أجمع ، واكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلها ، فمن آمن واعتمد خلص ، ومن لم يؤمن يدان ، وهذه الآيات تتبع المؤمنين ، يخرجون الشياطين [باسمي] ويتكلمون بألسنة جديدة ، ويحملون بأيديهم الحيات ولا تؤذيهم . ويشربون السم القاتل فلا يضرهم ، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون ، ومن بعد ما كلمهم [ ص: 56 ] يسوع ارتفع إلى السماء ، فخرج أولئك يكرزون في كل مكان; وفي إنجيل لوقا : فلما خرجوا كانوا يطوفون في القرى ويبشرون ويشفون في كل موضع وفي آخره بعد أن ذكر تلامذته الأحد عشر وكلاما كانوا يخوضون فيه بعد ادعاء اليهود لصلبه : وفيما هم يتكلمون - وقف يسوع في وسطهم وقال لهم : السلام لكم ، أنا هو! لا تخافوا ، فاضطربوا وظنوا أنهم ينظرون روحا فقال : ما بالكم تضطربون؟ ولم تأتي الأفكار في قلوبكم؟ انظروا يدي ورجلي فإني أنا هو! جسوني وانظروا ، إن الروح ليس له لحم ولا عظم كما ترون أنه لي; ولما قال هذا أراهم يديه ورجليه ، وإذا هم غير مصدقين من الفرح ، قال لهم : أعندكم ههنا ما يؤكل؟ فأعطوه جزءا من حوت مشوي ومن شهد عسل ، فأخذ قدامهم وأكل ، وأخذ الباقي وأعطاهم ، وقال لهم : هذا الكلام الذي كلمتكم به إذ كنت معكم ، وأنه سوف يكمل كل شيء هو مكتوب في ناموس موسى والأنبياء والمزامير لأجلي ، وحينئذ فتح أذهانهم ليفهموا ، وقال لهم : اجلسوا أنتم في المدينة يروشليم حتى تتذرعوا لقوة من العلى ، ثم أخرجهم خارجا إلى بيت عنيا ، فرفع يديه وباركهم ، وكان فيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء أمامهم ، فرجعوا إلى يروشليم بفرح عظيم ، وكانوا في كل حين يسبحون [ ص: 57 ] ويباركون الله . انتهى ما نقلته من الأناجيل . وما كان فيه من لفظ يوهم نقصا [ما] فقد تقدم في أول آل عمران أنه لا يجوز في شرعنا إطلاقه على الله تعالى وإن كان صح إطلاقه في شرعهم ، فهو مؤول وقد نسخ.
وقال الإمام محيي السنة في تفسير آل عمران فيما نقله عن البغوي : فلما كان بعد سبعة أيام - أي : من ادعاء اليهود لصلبه - قال الله تعالى وهب لعيسى - عليه السلام - : اهبط على مريم المجدلانية في جبلها ، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها ، ولم يحزن [عليك] أحد حزنها ، ثم لتجمع لك الحواريين فتبثهم في الأرض دعاة إلى الله تعالى ، فأهبطه الله تعالى عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا ، فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ، ثم رفعه الله إليه ، وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى ، فلما أصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى - عليه السلام - إليهم ، فذلك قوله تعالى : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين هذا ما ذكر من شأن رسل عيسى - عليه السلام - أنهم كانوا دعاة .