الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت هذه الآية - بما فيها من التصريح بالتكذيب - شديدة الاعتناق لقوله ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا وقوله كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء الآيتين - رجع بالذي بعدها إلى فذلكة التفاصيل الماضية وواسطة عقدها وفريدة درها ، وهو التوحيد الذي أبانته الأدلة قبل الآيتين ، فقال دالا على اعتقادهم القدرة التي استلزم نعتهم بطلب الآية نفيها ، واعتقادهم للتوحيد في الجملة وهم يكذبون به ، بيانا لأنهم في الظلمات مقهورون بيد المشيئة لعدم تحاشيهم من التناقض معجبا منهم : قل أرأيتكم أي : أخبروني يا من كذب بالآيات والقدرة عنادا وشهد أن مع الله آلهة أخرى ، وعدل بالله الذي يعلم السر والجهر ، وهو مع من يدعوه في كل سماء وكل أرض بعنايته ونصره .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت حقيقة أرأيتكم هل رأيتم أنفسكم ، وكان هذا [ ص: 110 ] لكونه سؤالا عن معلوم لا يجهله أحد ، مشيرا إلى أن السؤال عن غيره مما قد يخفى من أحوال النفس ، كان كأنه قيل : عن أي أحوال نفوسنا نسأل؟ فقيل تنبيها لهم على حالة تلزمهم بالتوحيد أو العناد الذي يصير في العلم به كالسؤال عن رؤية النفس سواء : إن أتاكم أي : قبل مجيء الساعة كما آتى من قبلكم عذاب الله أي : المستجمع لمجامع العظمة ، فلا يقدر أحد على كشف ما يأتي به أو أتتكم الساعة أي : القيامة بما فيها من الأهوال .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما عجب منهم بما مضى ، كما مضى ، قال مجيبا للشرط موبخا لهم منكرا عليهم عدم استمرارهم على دعائه ولزوم سؤاله وندائه ، [ويجوز أن يكون جواب الشرط محذوفا تقديره : من تدعون؟ ثم زادهم توبيخا وتبكيتا بقوله] : أغير الله أي : الملك الذي له العظمة كلها تدعون أي : لشدة من تلك الشدائد ، ولا تدعون الله مع ذلك الغير إن كنتم صادقين أي : في أن غير الله يغني شيئا حتى يستحق الإلهية ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فادعوا ذلك الغير ، وهذه حجة لا يسعهم معها غير التسليم ، فإن عادتهم كانت مستمرة أنهم إذا اشتد الأمر وضاق الخناق لا يدعون غير الله ولا يوجهون الهمم إلا إليه ، فإن سلكوا سبيل الصدق الذي له ينتحلون وبه يتفاخرون فقالوا : لا ندعو غيره ، فقد لزمتهم الحجة في أنه لا يعدل به شيء ولا شريك له ، [ ص: 111 ] وإن عاندوا نطق لسان الحال أنهم على محض الضلال ، وإن سكتوا أثبت عليك الخطاب ، وهي مع ذلك - كما ترى - دليل على ما أخبرت به الآية قبلها من أن الأمر كله لله ، أي : إنكم كلكم مشتركون في وضوح الأمر في أنه لا منصرف إلا إليه وقد افترقتم فصدق بعض وكذب آخرون ، فلو أن الأمر موقوف على وضوح الدلالة فقط كان الكل على نهج واحد ، هذا ونقل أبو حيان عن الفراء أنه قال : للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان : أحدهما : أن تسأل الرجل : أرأيت زيدا ، أي : بعينك ، فهذه مهموزة . وثانيهما : أن تقول : أرأيت ، وأنت تريد : أخبرني ، فهاهنا تترك الهمزة إن شئت ، وهو أكثر كلام العرب ، وتومئ إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين; ثم قال أبو حيان : وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى : أخبرني نص عليه سيبويه وغيره من أئمة العرب ، وهو تفسير معنى لا تفسير إعراب ؛ لأن أخبرني يتعدى بعن ، وأرأيت متعد لمفعول به صريح وإلى جملة استفهامية هي في موضع المفعول الثاني; وقال [ ص: 112 ] في سورة يونس - عليه السلام - : تقدم في سورة الأنعام أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام ، ينعقد منها ومما قبلها مبتدأ وخبر ، يقول العرب : أرأيت زيدا ما صنع؟ المعنى : أخبرني عن زيد ما صنع! وقبل دخول أرأيت كان الكلام : زيد ما صنع . انتهى . قلت : وحقيقة المعنى - كما مر - : هل رأيت زيدا؟ فلما استفهم عن رؤيته - والمراد الخبر لا البصر - علم أن السؤال عن بعض أحواله ، فكأنه قيل : ما له؟ فقيل : ما صنع؟

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية