ولما كانت هذه الآية - بما فيها من التصريح بالتكذيب - شديدة الاعتناق لقوله ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا وقوله كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء الآيتين - رجع بالذي بعدها إلى فذلكة التفاصيل الماضية وواسطة عقدها وفريدة درها ، وهو التوحيد الذي أبانته الأدلة قبل الآيتين ، فقال دالا على اعتقادهم القدرة التي استلزم نعتهم بطلب الآية نفيها ، واعتقادهم للتوحيد في الجملة وهم يكذبون به ، بيانا لأنهم في الظلمات مقهورون بيد المشيئة لعدم تحاشيهم من التناقض معجبا منهم : قل أرأيتكم أي : أخبروني يا من كذب بالآيات والقدرة عنادا وشهد أن مع الله آلهة أخرى ، وعدل بالله الذي يعلم السر والجهر ، وهو مع من يدعوه في كل سماء وكل أرض بعنايته ونصره .
ولما كانت حقيقة أرأيتكم هل رأيتم أنفسكم ، وكان هذا [ ص: 110 ] لكونه سؤالا عن معلوم لا يجهله أحد ، مشيرا إلى أن السؤال عن غيره مما قد يخفى من أحوال النفس ، كان كأنه قيل : عن أي أحوال نفوسنا نسأل؟ فقيل تنبيها لهم على حالة تلزمهم بالتوحيد أو العناد الذي يصير في العلم به كالسؤال عن رؤية النفس سواء : إن أتاكم أي : قبل مجيء الساعة كما آتى من قبلكم عذاب الله أي : المستجمع لمجامع العظمة ، فلا يقدر أحد على كشف ما يأتي به أو أتتكم الساعة أي : القيامة بما فيها من الأهوال .
ولما عجب منهم بما مضى ، كما مضى ، قال مجيبا للشرط موبخا لهم منكرا عليهم عدم استمرارهم على دعائه ولزوم سؤاله وندائه ، [ويجوز أن يكون جواب الشرط محذوفا تقديره : من تدعون؟ ثم زادهم توبيخا وتبكيتا بقوله] : أغير الله أي : الملك الذي له العظمة كلها تدعون أي : لشدة من تلك الشدائد ، ولا تدعون الله مع ذلك الغير إن كنتم صادقين أي : في أن غير الله يغني شيئا حتى يستحق الإلهية ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فادعوا ذلك الغير ، وهذه حجة لا يسعهم معها غير التسليم ، فإن عادتهم كانت مستمرة أنهم إذا اشتد الأمر وضاق الخناق لا يدعون غير الله ولا يوجهون الهمم إلا إليه ، فإن سلكوا سبيل الصدق الذي له ينتحلون وبه يتفاخرون فقالوا : لا ندعو غيره ، فقد لزمتهم الحجة في أنه لا يعدل به شيء ولا شريك له ، [ ص: 111 ] وإن عاندوا نطق لسان الحال أنهم على محض الضلال ، وإن سكتوا أثبت عليك الخطاب ، وهي مع ذلك - كما ترى - دليل على ما أخبرت به الآية قبلها من أن الأمر كله لله ، أي : إنكم كلكم مشتركون في وضوح الأمر في أنه لا منصرف إلا إليه وقد افترقتم فصدق بعض وكذب آخرون ، فلو أن الأمر موقوف على وضوح الدلالة فقط كان الكل على نهج واحد ، هذا ونقل أبو حيان عن أنه قال : الفراء للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان : أحدهما : أن تسأل الرجل : أرأيت زيدا ، أي : بعينك ، فهذه مهموزة . وثانيهما : أن تقول : أرأيت ، وأنت تريد : أخبرني ، فهاهنا تترك الهمزة إن شئت ، وهو أكثر كلام العرب ، وتومئ إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين; ثم قال أبو حيان : وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى : أخبرني نص عليه وغيره من أئمة سيبويه العرب ، وهو تفسير معنى لا تفسير إعراب ؛ لأن أخبرني يتعدى بعن ، وأرأيت متعد لمفعول به صريح وإلى جملة استفهامية هي في موضع المفعول الثاني; وقال [ ص: 112 ] في سورة يونس - عليه السلام - : تقدم في سورة الأنعام أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام ، ينعقد منها ومما قبلها مبتدأ وخبر ، يقول العرب : أرأيت زيدا ما صنع؟ المعنى : أخبرني عن زيد ما صنع! وقبل دخول أرأيت كان الكلام : زيد ما صنع . انتهى . قلت : وحقيقة المعنى - كما مر - : هل رأيت زيدا؟ فلما استفهم عن رؤيته - والمراد الخبر لا البصر - علم أن السؤال عن بعض أحواله ، فكأنه قيل : ما له؟ فقيل : ما صنع؟