ولما كانوا بعبادة غيره تعالى - مع إقرارهم بأنه هو خالق السماوات والأرض - في حال من يعتقد أن ذلك الذي يعبدونه من دونه هو الذي خلقهما ، أو شاركا فيهما . فلا قدرة لغيره على حشر من في مملكته ، قال تعالى منبها لهم من غفلتهم وموقظا من رقدتهم معيدا الدليل الذي ذكره أول السورة على وجه آخر : وهو أي : وحده الذي خلق أي : أوجد واخترع وقدر السماوات والأرض أي : على عظمهما وفوت ما فيهما من الحكم والمنافع الحصر بالحق أي : بسبب إقامة الحق ، وأنتم ترون أنه غير قائم في هذه الدار ولا هو قريب من القيام ، فوجب على كل من يعلم أن الله حكيم [ ص: 154 ] خبير أن يعتقد أنه لا بد من بعثة العباد بعد موتهم - كما وعد بذلك - ليظهر العدل بينهم ، فيبطل كل باطل ويحق كل حق ، ويظهر الحكم لجميع الخلق .
ولما قرر أن إقامة الحق هي المراد - قرر قدرته عليها بقوله : ويوم يقول أي : للخلق ولكل شيء يريده في هذه الدار وتلك الدار كن فيكون أي : فهو يكون لا يتخلف أصلا .
ولما قرر أنه لا يتخلف شيء عن أمره ، علله فقال : قوله الحق أي : لا قول غيره ؛ لأن أكثر قول غيره باطل ؛ لأنه يقول شيئا فلا يكون ما أراد ; ولما كان في مقام الترهيب من سطوته ، قال مكررا لقوله : ( وهو الذي إليه تحشرون ) : وله أي : وحده بحسب الظاهر والباطن الملك يوم ولما كان المقصود تعظيم النفخة ، بني للمفعول قوله : ينفخ في الصور لانقطاع العلائق بين الخلائق ، لا كما ترون في هذه الدار من تواصل الأسباب ، وقوله - : عالم الغيب وهو ما غاب عن كل ما سواه - سبحانه - والشهادة وهو ما صار بحيث يطلع عليه الخلق - مع كونه علة لما قبله من تمام القدرة كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في ( طه ) من تمام الترهيب ، أي : أنه لا يخفى عليه شيء [ ص: 155 ] من أحوالكم ، فاحذروا جزاءه يوم تنقطع الأسباب ، ويذهب التعاضد والتعاون ، وهو على عادته - سبحانه - في أنه ما ذكر أحوال البعث إلا قرر فيه أصلين : القدرة على جميع الممكنات ، والعلم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات ؛ لأنه لا يقدر على البعث إلا من جمع الوصفين وهو أي : وحده الحكيم أي : التام الحكمة ، فلا يضع شيئا في غير محله ولا على غير إحكام ، فلا معقب لأمره ، فلا بد من البعث الخبير بجميع الموارد والمصادر ، فلا خفاء لشيء من أفعال أحد من الخلق عليه في ظاهر ولا باطن ليهملهم عن الحساب .