ولما أكثر لهم من إقامة الأدلة على وحدانيته ، وختمها بهذا الدليل المحسوس الذي معناه أن [كل شريك وكل ابن يدرك شريكه وأباه ، وهو متناه عن أن يدركه ، أي : يحيط به] أحد ، ناسب أن يعظهم ويمدح الأدلة حثا على تدبرها ، وجعل ذلك على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى أنه - لنور قلبه وكمال عقله وصفاء لبه وغزارة علمه وشريف أخلاقه واستقامة غرائزه وبعد مدى همته عن أن ينسب إلى جور أو يرمى بعناد - حقيق بأن يقول بعد إقامتها من غير تلعثم تقريرا لأمر دعوته بعد تقرير المطالب العالية الإلهية : قد جاءكم .
ولما كانت الآيات - لقوتها وجلالتها التي أشار إليها تذكير الفعل - توجب المعرفة فتكون سببا لانكشاف الحقائق الذي هو كالنور في جلاء المحسوسات ، قال : بصائر أي : أنوار هي لقلوبكم بمنزلة الضياء المحسوس لعيونكم من ربكم أي : المحسن إليكم بكل إحسان ، فلا إحسان أصلا لغيره عندكم ، فاصعدوا عن النظر بالأبصار إلى الاعتبار [ ص: 223 ] بالبصائر ، ولا تهبطوا في حضيض التقليد إلى أن تصلوا إلى حد لا تفهمون معه إلا ما يحس بالأبصار بل ترقوا في أوج المعرفة إلى سماوات الاجتهاد وجردوا لقطاع الطريق صوارم البصائر ، فإنكم إن رضيتم بالدون لم تضروا إلا أنفسكم ، وإن نافستم في المعالي فإياها نفعتم . ولذلك سبب عن هذا النور الباهر والسر الظاهر قوله : فمن أبصر أي : عمل بالأدلة فلنفسه أي : خاصة إبصاره لأنه خلصها من الضلال المؤدي إلى الهلاك ومن عمي أي : لم يهتد بالأدلة فعليها أي : خاصة عماه لأنه يضل فيعطب .
ولما كان المعنى أنه ليس لي ولا لغيري من إبصاره شيء ينقصه شيئا ، ولا علي ولا غيري شيء من عماه ، كان التقدير : فإنما أنا بشير ونذير ، عطف عليه قوله وما أنا وأشار إلى أن حق الآدمي التواضع وإسلام الجبروت والقهر لله بأداة الاستعلاء ، فقال : عليكم وأغرق في النفي بقوله : بحفيظ أي : أقودكم قسرا إلى ما ينجيكم ، وأمنعكم قهرا مما يرديكم .