ولما تقدمت الإشارة بقوله تعالى : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط الآية إلى أن المساواة الحقيقية في الميزان معجوز عنها وأنه أبعد المقادير عن التساوي ، والنص في قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها على قدرة القدير على ذلك ، وختم الآية السالفة بإحاطة العلم على الوجه الأبلغ المقتضي لذلك على أعلى الوجوه - أكد الأمر أيضا وقصره على علمه هنا ، فقال : والوزن بميزان حقيقي لصحف الأعمال أو للأعمال أنفسها بعد تصويرها بما تستحقه من الصور أو بغير ذلك بعد أن يقذف الله في القلوب العلم به ، ولعله حال من نون العظمة في الآية التي قبلها ، أي : إنا لا نكتفي بما نقص بل نزنه فيصير بحيث يظهر لكل أحد أنه على غاية ما يكون من التساوي. قال أبو حيان وعلي بن الحسين النحوي الأصفهاني في إعرابه : (الوزن) مبتدأ يومئذ ظرف منصوب به الحق خبر المبتدإ ، زاد الأصفهاني فقال : واستضعف إعمال المصدر وفيه لام التعريف وقد ذكرنا أنه جاء في التنزيل : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم - انتهى . أي : والوزن في ذلك اليوم مقصور على الحق ، يطابقه الواقع [ ص: 360 ] مطابقة حقيقية لا فضل فيها أصلا ، ولا يتجاوز الوزن في ذلك اليوم الحق إلى شيء من الباطل بزيادة ذرة ولا نقصها ولا ما دون ذلك ، فتحرر أن مقصود السورة الحث على اتباع الكتاب ، وهو يتضمن الحث على اتباع الرسول والدلالة على التوحيد والقدرة على البعث ببيان الأفعال الهائلة في ابتداء الخلق وإهلاك الماضين إشارة إلى أن من لم يتبعه ويوحد - من أنزله على هذا الأسلوب الذي لا يستطاع ، والمنهاج الذي وقفت دونه العقول والطباع ، لما قام من الأدلة على توحيده بعجز من سواه عن أقواله وأفعاله - أوشك أن يعاجله قبل يوم البعث بعقاب مثل عقاب الأمم السالفة والقرون الخالية مع ما ادخر له في ذلك اليوم من سوء المنقلب وإظهار أثر الغضب .
ولما أخبر أن العبرة بالميزان على وجه يظهر أنه لا حيف فيه بوجه ، تسبب عنه قوله : فمن ثقلت أي : دست ورسبت على ما يعهد في الدنيا موازينه أي : موزونات أعماله ، [أي : أعماله] الموزونة ، ولعله عبر بها عنها إشارة إلى أن كل عمل يوزن على حدة ليسعى في إصلاحه فأولئك أي : العالو الهمم هم [أي : خاصة] المفلحون أي : الظاهرون بجميع مآربهم