ولما كان ، فكان بيان ما وقع بين المقصود من ذكر القصص لا سيما قصص الأنبياء الاعتبار بها آدم - عليه السلام - وبين الشيطان من شديد العداوة مقتضيا للتحذير من الشيطان ، وكان المقام خطرا والتخلص عسرا - أشار إلى ذلك بالتأكيد وبيان ما سلط الشيطان به من المكايد الخفية والأسباب الدقيقة ليعلم الناجي أنه إنما نجا بمحض التوفيق ومجرد اللطف فيقبل على الشكر متبرئا من الحول والقوة ، فقال مناديا لهم بما يفهم الاستعطاف والتراؤف والتحنن والترفق والاستضعاف : يا بني آدم [ ص: 381 ] أي : الذي خلقته بيدي وأسكنته جنتي ثم أنزلته إلى دار محبتي إرادة الإعلاء لكم إلى الذروة من عبادتي والإسفال إلى الحضيض من معصيتي لا يفتننكم أي : لا يخالطنكم بما يميلكم عن الاعتدال الشيطان أي : البعيد المحترق بالذنوب ، يصدكم عما يكون سببا لردكم إلى وطنكم بتزيين ما ينزع عنكم من لباس التقوى المفضي إلى هتك العورات الموجب لخزي الدنيا ، فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار كما أخرج أبويكم من الجنة بما فتنهما به بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها ، وقد علمتم أن الدفع أسهل من الرفع فإياكم ثم إياكم! فالآية من الاحتباك : ذكر الفتنة أولا دليلا على حذفها ثانيا ، والإخراج ثانيا دليلا على حذف ضده أو نظيره أولا .
ولما كان قد بذل الجهد في إخراجهما ، فسر الإخراج - مشيرا إلى ذلك - بإطالة الوسواس وإدامة المكر والخديعة بالتعبير بالفعل المضارع ، فقال [في موضع الحال من ضمير (الشيطان) ] : ينـزع عنهما أي : [بالتسبيب] بإدامة التزيين والأخذ من المأمن لباسهما [أي : الذي كان الله - سبحانه - قد سترهما به ما داما حافظين لأنفسهما من مواقعة ما نهيا عنه ، ودل على منافاة الكشف للجنة بالتعليل بقوله : ليريهما سوآتهما ] فإن ذلك مبدأ ترك الحياة و (الحياء والإيمان في قرن) - كما أخرجه الطبراني في الحلية عن وأبو نعيم - رضي الله عنهما - و ابن عمر - كما رواه الشيخان عن ( الحياء لا يأتي [ ص: 382 ] إلا بخير) - رضي الله عنهما - . عمران بن حصين
ولما كان نهي الشيطان عن فتنتنا إنما هو في الحقيقة نهي لنا عن الافتتان به ، فهو في قوة ليشتد حذركم من فتنته فإنه دقيق الكيد بعيد الغور بديع المخاتلة - علل ذلك بقوله : إنه يراكم أي : الشيطان هو وقبيله أي : جنوده من حيث لا ترونهم عن مالك بن دينار : إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله .
ولما كان كأنه قيل : لم سلطوا علينا هذا التسليط العظيم الذي لا يكاد يسلم معه أحد ، قال مخففا لأمرهم موهيا في الحقيقة لكيدهم : إنا أي : فعلنا ذلك لأنا بما لنا من العظمة جعلنا الشياطين أي : المحترقين بالغضب البعيدين من الرحمة أولياء أي : قرباء وقرناء للذين لا يؤمنون أي : يجددون الإيمان ؛ لأن بينهم تناسبا في الطباع يوجب الاتباع ، وأما أولياؤنا الذين منعناهم بقوتنا منه أو فتناهم يسيرا بهم ، ثم خلصناهم بلطفنا منهم فليسوا لهم بأولياء ، بل هم لهم أعداء وآيتهم أنهم يؤمنون ، والمعنى أنا مكناهم من مخاتلتكم بسترهم عنكم وإظهاركم لهم ، فسلطناهم بذلك على من حكمنا بأنه لا يؤمن بتزيينهم لهم وتسويلهم واستخفافهم بأن ينصروهم في بعض المواطن ويوصلوهم إلى شيء من المطالب ، فعلنا ذلك ليتبين الرجل الكامل - الذي يستحق الدرجات العلى ويتردد إليه الملائكة بالسلام والجنى - من غيره فخذوا حذركم فإن الأمر [ ص: 383 ] خطر والخلاص عسر ، وبعبارة أخرى : إنا سلكناكم طريقا وجعلنا بجنبتيها أعداء يرونكم ولا ترونهم ، وأقدرناهم على بعضكم ، فمن سلك سواء السبيل نجا ومن شذ أسره العدو ، ومن دنا من الحافات بمرافقة الشبهات قارب العدو ومن قاربه استغواه ، فكلما دنا منه تمكن من أسره ، وكل من تمكن من أسره بعد الخلاص فاحذروا ، وعدم رؤيتنا لهم في الجملة لا يقتضي امتناع رؤيتهم على أنه قد صح تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه - رضي الله عنه - حين أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ الصدقة ، وكذا أبو هريرة - رضي الله عنه - وحديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - في شيطان العزى معروف في السير ، وكذا حديث خالد بن الوليد سواد بن قارب - رضي الله عنه - في إرشاد رئيه من الجن له ، وكذا خطر ابن مالك - رضي الله عنه - في مثل ذلك وغيرهما ، وفي شرحي لنظمي للسيرة كثير من ذلك ، وكذا حديث العفريت الذي تفلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشعلة من نار ليقطع عليه صلاته فأخزاه الله وأمكن منه رسول الله ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -
سليمان - عليه السلام - لأصبح مربوطا بسارية المسجد يتلعب به ولدان أهل [ ص: 384 ] المدينة ) قال (لولا دعوة أخي أبو حيان : إلا كما أن الملائكة - عليهم السلام - تبدو في صور كحديث أن رؤيتهم في الصور نادرة جبريل - عليه السلام - .