ولما كان من المعلوم أن ما كانوا ألفوه واتخذوه دينا يستعظمون تركه ؛ لأن الشيطان يوسوس لهم بأنه توسع [الدنيا ، والتوسع] [ ص: 389 ] فيها مما ينبغي الزهد فيه كما دعا إليه كثير من الآيات - أكد سبحانه الإذن في ذلك بالإنكار على من حرمه ، فقال منكرا عليهم إعلاما بأن ما كان مع صحة الاعتقاد في الحلال والحرام ، وأما ما كان مع تبديل شيء من الدين بتحليل حرام أو عكسه فهو مذموم : الزهد الممدوح قل منكرا موبخا من حرم زينة الله أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه التي أخرج لعباده أي : ليتمتعوا بها من الثياب والمعادن وغيرها .
ولما ذكر الملابس التي هي شرط في صحة العبادة على وجه عم غيرها من المراكب وغيرها ، أتبعها المآكل والمشارب ، فقال : والطيبات أي : من الحلال المستلذ من الرزق كالبحائر والسوائب ونحوها. ولما كان معنى الإنكار : لم يحرمها من يعتبر تحريمه بل أحلها ، وكان ربما غلا في الدين غال تمسكا بالآيات المنفرة عن الدنيا المهونة لشأنها مطلقا فضلا عن زينة وطيبات الرزق ، قال مستأنفا لجواب من يقول : لمن؟ : قل هي أي : الزينة والطيبات للذين آمنوا وعبر بهذه العبارة ولم يقل : ولغيرهم ، تنبيها على أنها لهم بالأصالة في الحياة الدنيا وأما الكفار فهم تابعون لهم في التمتع بها وإن كانت لهم أكثر ، فهي غير خالصة لهم وهي للذين آمنوا خالصة أي : لا يشاركهم فيها أحد ، هذا على قراءة بالرفع ، والتقدير على قراءة غيره : حال كونها خالصة نافع يوم القيامة وفي هذا تأكيد لما مضى من إحلالها بعد تأكيد ومحو الشكوك ، وداعية للتأمل في الفصل بين المقامين لبيان أن الزهد المأمور به [ ص: 390 ] إنما هو بالقلب بمعنى أنه لا يكون للدنيا عنده قدر ولا له إليها التفات ولا هي أكبر همه ، وأما كونها ينتفع بها فيما أذن الله فيه وهي محقورة غير مهتم بها فذلك من المحاسن .
ولما كان هذا المعنى من دقائق المعاني ونفائس المباني أتبعه - تعالى - قوله جوابا لمن يقول : إن هذا التفصيل فائق ، فهل يفصل غيره هكذا؟ كذلك أي : مثل هذا التفصيل البديع نفصل الآيات أي : نبين أحكامها ونميز بعض المشتبهات من بعض لقوم يعلمون أي : لهم ملكة وقابلية للعلم ليتوصلوا به إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح .