وفي تسميتها "خمرا" أربعة أقوال، أحدها: - وهو المشهور - أنها سميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تستره، ومنه: خمار المرأة لستره وجهها، و: "خامري حضاجر، أتاك ما تحاذر" يضرب للأحمق، وحضاجر علم للضبع، أي: استتر عن الناس. ودخل في خمار الناس وغمارهم. وفي الحديث: وقال: "خمروا آنيتكم"،
941 - ألا يا زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق
أي: ما يستركما من شجر وغيره. وقال العجاج يصف مسير جيش ظاهر:[ ص: 405 ]
942 - في لامع العقبان لا يمشي الخمر ... ... ... ...
والثاني: لأنها تغطى حتى تدرك وتشتد، ومنه "خمروا آنيتكم". والثالث: - قال - لأنها تخامر العقل أي: تخالطه، يقال: خامره الداء أي: خالطه. والرابع: لأنها تترك حتى تدرك، ومنه: "اختمر العجين" أي: بلغ إدراكه، وخمر الرأي أي: تركه حتى ظهر له فيه وجه الصواب، وهذه أقوال متقاربة. وعلى هذه الأقوال كلها تكون الخمر في الأصل مصدرا مرادا به اسم الفاعل أو اسم المفعول. ابن الأنباري
والميسر: القمار، مفعل من اليسر، يقال: يسر ييسر. قال علقمة:
943 - لو ييسرون بخيل قد يسرت بها وكل ما يسر الأقوام مغروم
944 - أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم
وللميسر كيفية، ولسهامه - وتسمى القداح والأزلام أيضا - أسماء لا بد من ذكرها لتوقف المعنى عليها. فالكيفية أن لهم عشرة أقداح وقيل أحد عشر، لسبعة منها حظوظ، وعلى كل منها خطوط، فالخط يقدر الحظ، وتلك القداح هي: الفذ وله سهم واحد، والتوءم وله اثنان، والرقيب وله ثلاثة، والحلس وله أربعة، والنافس وله خمسة، والمسبل وله ستة، والمعلى وله سبعة، وثلاثة أغفال لا خطوط عليها وهي المنيح والسفيح والوغد، ومن زاد رابعا سماه المضعف. وإنما كثروا بهذه الأغفال ليختلط على الحرضة وهو الضارب، فلا يميل مع أحد، وهو رجل عدل عندهم، فيجثوا ويلتحف بثوب، ويخرج رأسه، فيجعل تلك القداح في الربابة وهي الخريطة، ثم يخلخلها ويدخل يده فيها، ويخرج باسم رجل رجل قدحا فمن خرج على اسمه قدح: فإن كان من ذوات السهام فاز بذلك النصيب وأخذه، وإن كان من الأغفال غرم من الجزور، وكانوا يفعلون هذا في الشتوة وضيق العيش، ويقسمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئا، ويفتخرون بذلك، ويسمون من لم يدخل معهم فيه: البرم، والجزور تقسم عند الجمهور على عدد القداح فتقسم عشرة أجزاء، وعند على عدد خطوط القداح، فتقسم على ثمانية وعشرين جزءا. وخطأ الأصمعي ابن عطية في ذلك، وهذا عجيب منه، لأنه يحتمل أن الأصمعي العرب كانت تقسمها مرة على عشرة ومرة على ثمانية وعشرين.
وقوله "عن الخمر" لا بد من حذف مضاف، إذ السؤال عن ذاتي الخمر [ ص: 407 ] والميسر غير مراد. والتقدير. عن حكم الخمر والميسر حلا، وحرمة، ولذلك جاء الجواب مناسبا لهذا المقدر.
قوله: "فيهما إثم كبير" الجار خبر مقدم، و "إثم" مبتدأ مؤخر، وتقديم الخبر هنا ليس بواجب وإن كان المبتدأ نكرة، لأن هنا مسوغا آخر، وهو الوصف أو العطف، ولا بد من حذف مضاف أيضا، أي: في تعاطيهما إثم، لأن الإثم ليس في ذاتهما.
وقرأ حمزة "كثير" بالثاء المثلثة، والباقون بالباء ثانية الحروف. ووجه قراءة الجمهور واضح، وهو أن الإثم يوصف بالكبر، ومنه آية الكسائي: "حوبا كبيرا". وسميت الموبقات: "الكبائر"، ومنه قوله تعالى: "يجتنبون كبائر الإثم"، وشرب الخمر والقمار من الكبائر، فناسب وصف إثمهما بالكبر، وقد أجمعت السبعة على قوله: "وإثمهما أكبر" بالباء الموحدة، وهذه توافقها لفظا.
وأما وجه قراءة الأخوين: فإما باعتبار الآثمين من الشاربين والمقامرين فلكل واحد إثم، وإما باعتبار ما يترتب على تعاطيهما من توالي العقاب وتضعيفه، وإما باعتبار ما يترتب على شربها مما يصدر من شاربها من الأقوال السيئة والأفعال القبيحة، وإما باعتبار من يزاولها من لدن كانت عنبا إلى أن شربت، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر، ولعن معها عشرة: بائعها ومبتاعها، فناسب ذلك أن يوصف إثمها بالكثرة. وأيضا [ ص: 408 ] فإن قوله: "إثم" مقابل لـ "منافع" و "منافع" جمع، فناسب أن توصف مقابلة بمعنى الجمعية وهو الكثرة. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان في القرآن، وهو أن يذكر لكل قراءة توجيها من غير تعرض لتضعيف القراءة الأخرى كما فعل بعضهم، وقد تقدم فصل صالح من ذلك في قراءتي: "ملك" و "مالك".
وقال "الأحسن القراءة بالباء لأنه يقال: إثم كبير وصغير، ويقال في الفواحش العظام "الكبائر"، وفيما دون ذلك "الصغائر" وقد قرئ بالثاء وهو جيد في المعنى، لأن الكثرة كبر، والكثير كبير، كما أن الصغير حقير ويسير. أبو البقاء:
وقرأ وكذلك هي فى مصحفه: "وإثمهما أكثر" بالمثلثة، وكذلك الأولى في قراءته ومصحفه. وفي قراءة عبد الله "أقرب من نفعهما". [وإثمهما ونفعهما مصدران مضافان] إلى الفاعل، لأن الخمر والميسر سببان فيهما فهما فاعلان، ويجوز أن تكون الإضافة باعتبار أنهما محلهما. وقد تقدم القول مستوفى على قوله: أبي: "ويسألونك ماذا ينفقون".
وقرأ "قل العفو" رفعا والباقون نصبا. فالرفع على أن "ما" استفهامية، و"ذا" موصولة، فوقع جوابها مرفوعا خبرا لمبتدأ محذوف، مناسبة [ ص: 409 ] بين الجواب والسؤال. والتقدير: إنفاقكم العفو. والنصب على أنهما بمنزلة واحدة، فيكون مفعولا مقدما، تقديره: أي شيء ينفقون؟ فوقع جوابها منصوبا بفعل مقدر للمناسبة أيضا، والتقدير: أنفقوا العفو. وهذا هو الأحسن، أعني أن يعتقد فى حال الرفع كون "ذا" موصولة، وفى حال النصب كونها ملغاة. وفى غير الأحسن يجوز أن يقال بكونها ملغاة مع رفع جوابها، وموصولة مع نصبه. وإنما اختصرت القول هنا لأني قد استوفيت الكلام عليها عند قوله تعالى: أبو عمرو: "ماذا أراد الله" ومذاهب الناس فيها، فأغنى عن إعادتها.
قوله: "كذلك يبين" الكاف في محل نصب: إما نعتا لمصدر محذوف أي: تبينا مثل ذلك التبيين يبين لكم، وإما حالا من المصدر المعرفة، أي: يبين التبيين مماثلا ذلك التبيين. والمشار إليه يبين حال المنفق أو يبين حكم الخمر والميسر والمنفق المذكور بعدهما. وأبعد من خص اسم الإشارة ببيان حكم الخمر والميسر، وأبعد منه من جعله إشارة إلى جميع ما سبق فى السورة من الأحكام.
و"لكم" متعلق بـ "يبين". وفي اللام وجهان، أظهرهما أنها للتبليغ كالتي في: قلت لك. والثاني: أنها للتعليل وهو بعيد. والكاف في "كذلك" تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم أو السامع، فتكون على أصلها من مخاطبة المفرد. والثاني: أن تكون خطابا للجماعة فيكون ذلك مما خوطب به الجمع بخطاب المفرد، ويؤيده قوله "لكم" و "لعلكم"، وهي لغة للعرب، يخاطبون فى اسم الإشارة بالكاف مطلقا، وبعضهم يستغني عن الميم بضمة الكاف، قال:
[ ص: 410 ]
945-وإنما الهالك ثم التالك ذو حيرة ضاقت به المسالك
كيف يكون النوك إلا ذلك