آ. ( 135 ) قوله تعالى: شهداء فيه وجهان، أحدهما: أنه خبر ثان لـ "كان"، وهذا فيه خلاف قد مر ذكره. والثاني: أنه حال من الضمير [ ص: 114 ] المستكن في "قوامين"، فالعامل فيها "قوامين". وقد رد الشيخ هذا الوجه بأنه يلزم منه تقييد كونهم قوامين بحال الشهادة، وهم مأمورون بذلك مطلقا، وهذا الرد ليس بشيء، فإن هذا المعنى نحا إليه قال - رضي الله عنه -: "كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت"، وهذا هو معنى الوجه الصائر إلى جعل "شهداء" حالا. ابن عباس،
قوله: ولو على أنفسكم "لو" هذه تحتمل أن تكون على بابها من كونها حرفا، لما كان سيقع لوقوع غيره وجوابها محذوف؛ أي: ولو كنتم شهداء على أنفسكم لوجب عليكم أن تشهدوا عليها. وأجاز الشيخ أن تكون بمعنى "إن" الشرطية، ويتعلق قوله: "على أنفسكم" بمحذوف، تقديره: وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله، هذا تقدير الكلام، وحذف "كان" بعد "لو" كثير، تقول: ائتني بتمر ولو حشفا؛ أي: وإن كان التمر حشفا فأتني به. انتهى. وهذا لا ضرورة تدعو إليه، ومجيء "لو" بمعنى "إن"، شيء أثبته بعضهم على قلة، فلا ينبغي أن يحمل القرآن عليه. وقال ابن عطية: "على أنفسكم" متعلق بـ "شهداء". قال الشيخ: فإن عنى بـ "شهداء" الملفوظ به، فلا يصح، وإن عنى به ما قدرناه نحن، فيصح. يعني: تقديره: "لو" بمعنى: "إن"، وحذف "كان" واسمها وخبرها بعد "لو"، وقد تقدم أن ذلك قليل، فلم يبق إلا أن يريد: "شهداء" محذوفة كما قدرته لك أولا، نحو: "ولو كنتم شهداء" على أنفسكم لوجب عليكم أن تشهدوا. [ ص: 115 ] ابن عطية
وقال ولو كانت الشهادة على أنفسكم؛ فجعل "كان" مقدرة، وهي تحتمل في تقديره التمام والنقصان؛ فإن قدرتها تامة كان قوله: الزمخشري: "على أنفسكم" متعلقا بنفس الشهادة، ويكون المعنى: ولو وجدت الشهادة على أنفسكم، وإن قدرتها ناقصة، فيجوز أن يكون "على أنفسكم" متعلقا بمحذوف على أنه خبرها، ويجوز أن يكون متعلقا بنفس الشهادة، وحينئذ يكون الخبر مقدرا، والمعنى: ولو كانت الشهادة على أنفسكم موجودة، إلا أنه يلزم من جعلنا "على أنفسكم" متعلقا بالشهادة حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو قليل أو ممتنع. وقال أيضا: ويجوز أن يكون المعنى: وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم. ورد عليه الشيخ هذين الوجهين، فقال: وتقديره: ولو كانت الشهادة على أنفسكم ليس بجيد؛ لأن المحذوف إنما يكون من جنس الملفوظ به ليدل عليه، فإذا قلت: كن محسنا ولو لمن أساء إليك، فالتقدير: ولو كنت محسنا لمن أساء، ولو قدرته "ولو كان إحسانك" لم يكن جيدا؛ لأنك تحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق. وهذا الرد ليس بشيء، فإن الدلالة اللفظية موجودة؛ لاشتراك المحذوف والملفوظ به في المادة، ولا يضر اختلافهما في النوع. وقال في الوجه الثاني: وهذا لا يجوز؛ لأن ما تعلق به الظرف كون مقيد، والكون المقيد لا يجوز حذفه بل المطلق، لو قلت: [ كان ] زيد فيك، تعني: محبا فيك، لم يجز. وهذا الرد أيضا ليس بشيء؛ لأنه قصد تفسير المعنى، ومبادئ النحو لا تخفى على آحاد الطلبة، فكيف بشيخ الصناعة ؟
قوله: "فالله أولى بهما" إذا عطف بـ "أو"، كان الحكم في عود الضمير والإخبار وغيرهما لأحد الشيئين أو الأشياء، ولا يجوز المطابقة، تقول: زيد [ ص: 116 ] أو عمرو أكرمته، ولو قلت: أكرمتهما، لم يجز، وعلى هذا يقال: كيف ثنى الضمير في الآية الكريمة والعطف بـ "أو" ؟ لا جرم أن النحويين اختلفوا في الجواب عن ذلك على خمسة أوجه، أحدها: أن الضمير في "بهما" ليس عائدا على الغني والفقير المذكورين أولا، بل على جنسي الغني والفقير المدلول عليهما بالمذكورين، تقديره: وإن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فليشهد عليه، فالله أولى بجنسي الغني والفقير، ويدل على هذا قراءة "فالله أولى بهم"؛ أي: بالأغنياء والفقراء مراعاة للجنس على ما قررته لك، ويكون قوله: أبي: "فالله أولى بهما" ليس جوابا للشرط، بل جوابه محذوف كما قد عرفته، وهذا دال عليه. الثاني: أن "أو" بمعنى الواو، ويعزى هذا وكنت قدمت أول البقرة أنه قول الكوفيين، وأنه ضعيف. الثالث: أن "أو" للتفصيل؛ أي: لتفصيل ما أبهم. وقد أوضح ذلك للأخفش، فقال: وذلك أن كل واحد من المشهود عليه والمشهود له قد يكون غنيا، وقد يكون فقيرا، وقد يكونان غنيين، وقد يكونان فقيرين، وقد يكون أحدهما غنيا والآخر فقيرا. فلما كانت الأقسام عند التفصيل على ذلك، أتي بـ "أو" لتدل على التفصيل، فعلى هذا يكون الضمير في "بهما" عائدا على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا عليه. انتهى. إلا أن قوله: وقد يكون أحدهما غنيا والآخر فقيرا، مكرر؛ لأنه يغني عنه قوله: "وذلك أن كل واحد" إلى آخره. الرابع: أن الضمير يعود على الخصمين، تقديره: إن يكن الخصمان غنيا أو فقيرا، فالله أولى بذينك الخصمين. الخامس: أن الضمير يعود على الغنى والفقر المدلول عليهما بلفظ الغني والفقير، والتقدير: فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير. وقد أساء ابن عصفور العبارة هنا بما يوقف عليه في كلامه. وعلى أربعة الأوجه الأخيرة [ ص: 117 ] يكون جواب الشرط ملفوظا به، وهو قوله: أبو البقاء، "فالله أولى بهما" بخلاف الأول، فإنه محذوف. وقرأ "إن يكن غني أو فقير" برفعهما، والظاهر أن "كان" في قراءته تامة؛ أي: وإن وجد غني أو فقير، نحو: عبد الله: وإن كان ذو عسرة .
قوله: "أن تعدلوا" فيه ثلاثة أوجه، أحدهما: أنه مفعول من أجله على حذف مضاف، تقديره: فلا تتبعوا الهوى محبة أن تعدلوا، أو إرادة أن تعدلوا؛ أي: تعدلوا عن الحق وتجوروا. وقال في المضاف المحذوف: تقديره: مخافة أن تعدلوا عن الحق. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون معناه: مخافة أن تعدلوا، ويكون العدل هنا بمعنى: العدول عن الحق، ويحتمل أن يكون معناه: محبة أن تعدلوا، ويكون العدل بمعنى القسط، كأنه يقول: انتهوا خوف أن تجوروا، أو محبة أن تقسطوا، فإن جعلت العامل "تتبعوا"، فيحتمل أن يكون المعنى: محبة أن تجوروا. انتهى. فتحصل لنا في العامل وجهان: الظاهر منهما أنه نفس أبو البقاء "تتبعوا". والثاني: أنه مضمر وهو فعل من معنى النهي، كما قدره كأنه يزعم أن الكلام قد تم عند قوله: ابن عطية، "فلا تتبعوا الهوى"، ثم أضمر عاملا، وهذا ما لا حاجة إليه.
الثاني: أنه على إسقاط حرف الجر وحذف "لا" النافية، والأصل: فلا تتبعوا الهوى في إلا تعدلوا؛ أي: في ترك العدل، فحذف "لا" لدلالة المعنى عليها، ولما حذف حرف الجر من "أن" جرى القولان الشهيران. الثالث: أنه على [ ص: 118 ] حذف لام العلة، تقديره: فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا. قال صاحب هذا القول: والمعنى: لا تتبعوا الهوى لتكونوا في اتباعكموه عدولا، تنبيها [ على ] أن اتباع الهوى وتحري العدالة متنافيان لا يجتمعان، وهو ضعيف في المعنى.
قوله: "وإن تلووا" قرأ ابن عامر "تلوا" بلام مضمومة وواو ساكنة، والباقون بلام ساكنة وواوين بعدها، أولاهما مضمومة. وحمزة:
فأما قراءة الواوين فظاهرة؛ لأنه من لوى يلوي، والمعنى: وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل، والأصل: تلويون، كتضربون، فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان، الياء وواو الضمير، فحذف أولهما - وهو الياء - وضمت الواو المكسورة التي هي عين لأجل واو الضمير، فصار تلوون، وتصريفه كتصريف "ترمون".
وأما قراءة حمزة ففيها ثلاثة أقوال، أحدها: - وهو قول وابن عامر؛ الزجاج، والفراء ، في إحدى الروايتين عنه - أنه من لوى يلوي، كقراءة الجماعة، إلا أن الواو المضمومة قلبت همزة، كقلبها في "أجوه، وأقتت"، ثم نقلت حركة هذه الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفت، فصار "تلون" كما ترى. الثاني: أنه من لوى يلوي أيضا، إلا أن الضمة استثقلت على الواو الأولى، فنقلت إلى اللام الساكنة تخفيفا، فالتقى ساكنان وهما الواوان، فحذف الأول منهما، ويعزى هذا والفارسي للنحاس. وفي هذين التخريجين نظر، وهو أن لام الكلمة قد حذفت أولا كما قررته، فصار وزنه: تفعوا، بحذف اللام، ثم حذفت العين ثانيا، فصار وزنه: تفوا، وذلك إجحاف [ ص: 119 ] بالكلمة. الثالث - ويعزى لجماعة منهم -: أن هذه القراءة مأخوذة من الولاية، بمعنى: وإن وليتم إقامة الشهادة، أو وليتم الأمر فتعدلوا عنه، والأصل: "توليوا"، فحذفت الواو الأولى لوقوعها بين حرف المضارعة وكسرة، فصار "تليوا" كتعدوا وبابه، فاستثقلت الضمة على الياء، ففعل بها ما تقدم في "تلووا". وقد طعن قوم على قراءة الفارسي حمزة - منهم وابن عامر - قالوا: لأن معنى الولاية غير لائق بهذا الموضع. قال أبو عبيد القراءة عندنا بواوين مأخوذة من "لويت"، وتحقيقه في تفسير أبو عبيد: هو القاضي يكون ليه وإعراضه عن أحد الخصمين للآخر. وهذا الطعن ليس بشيء؛ لأنها قراءة متواترة ومعناها صحيح؛ لأنه إن أخذناها من “الولاية" كان المعنى على ما تقدم، وإن أخذناها من “اللي" فالأصل: "تلووا"، كالقراءة الأخرى، وإنما فعل بها ما تقدم من قلب الواو همزة ونقل حركتها، أو من نقل حركتها من غير قلب، فتتفق القراءتان في المعنى. ابن عباس: