وقوله: "يبتغون" حال من الضمير في "آمين"؛ أي: حال كون الآمين مبتغين فضلا، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة صفة لـ "آمين"؛ لأن اسم الفاعل متى وصف بطل عمله على الصحيح، وخالف الكوفيون في ذلك، وأعرب هذه الجملة صفة لـ "آمين"، وليس بجيد لما تقدم، وكأنه تبع في ذلك الكوفيين. وهنا سؤال: وهو أنه لم لا قيل بجواز إعماله قبل وصفه كما في هذه الآية قياسا على المصدر، فإنه يعمل قبل أن يوصف، نحو: يعجبني ضرب زيدا شديد ؟ والجمهور على "يبتغون" بتاء الخطاب على أنه خطاب للمؤمنين، وهي قلقة لقوله: مكي "من ربهم"، ولو أريد خطاب المؤمنين لكان تمام المناسبة: "تبتغون فضلا من ربكم". و "من ربهم" يجوز أن يتعلق بنفس الفعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ "فضلا"؛ أي: فضلا كائنا من ربهم. وقد تقدم الخلاف في ضم راء "رضوان" في آل عمران. وإذا علقنا "من ربهم" بمحذوف على أنه صفة لـ "فضلا"، فيكون قد حذف صفة "رضوان" لدلالة ما قبله عليه؛ أي: ورضوانا من ربهم، وإذا علقناه بنفس الفعل، لم يحتج إلى ذلك.
قوله: وإذا حللتم فاصطادوا قرئ: "أحللتم"، وهي لغة في "حل"، [ ص: 188 ] ويقال: أحل من إحرامه، كما يقال: حل. وقرأ الحسن بن عمران، وأبو واقد، ونبيح، والجراح بكسر الفاء العاطفة، وهي قراءة ضعيفة مشكلة، وخرجها على أن الكسر في الفاء بدل من كسر الهمزة في الابتداء. وقال الزمخشري هي قراءة مشكلة، ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذا ابتدأ، فكسر الفاء مراعاة وتذكرا لكسر ألف الوصل. وقال الشيخ: وليس عندي هو كسرا محضا، بل هو إمالة محضة؛ لتوهم وجود كسرة همزة الوصل، كما أمالوا فاء "فإذا" لوجود كسر الهمزة. ابن عطية:
قوله: "ولا يجرمنكم" قرأ الجمهور: "يجرمنكم" بفتح الياء من "جرم" ثلاثيا، ومعنى "جرم" عند وثعلب: حمل، يقال: جرمه على كذا؛ أي: حمله عليه، فعلى هذا التفسير يتعدى "جرم" لواحد، وهو الكاف والميم، ويكون قوله: الكسائي "أن تعتدوا" على إسقاط حرف الخفض وهو "على"؛ أي: ولا يحملنكم بعضكم لقوم على اعتدائكم عليهم، فيجيء في محل "أن" الخلاف المشهور، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ومعناه عند وقتادة. أبي عبيد كسب، ومنه: فلان جريمة أهله؛ أي: كاسبهم، وعن [ ص: 189 ] والفراء : أيضا: أن جرم وأجرم بمعنى: كسب غيره، وعلى هذا فيحتمل وجهين، أحدهما: أنه متعد لواحد. والثاني: أنه متعد لاثنين، كما أن "كسب" كذلك، وأما في الآية الكريمة فلا يكون إلا متعديا لاثنين أولهما ضمير الخطاب. الثاني: الكسائي "أن تعتدوا"؛ أي: لا يكسبنكم بغضكم لقوم الاعتداء عليهم.
وقرأ "يجرمنكم" بضم الياء من "أجرم" رباعيا، وقيل: هو بمعنى جرم، كما تقدم نقله عن عبد الله: وقيل: "أجرم" منقول من "جرم" بهمزة التعدية. قال الكسائي، جرم يجري مجرى كسب في تعديته إلى مفعول واحد وإلى اثنين، تقول: جرم ذنبا، نحو: كسبه، وجرمته ذنبا؛ أي: كسبته إياه، ويقال: أجرمته ذنبا، على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولك: أكسبته ذنبا، وعليه قراءة الزمخشري: عبد الله: "ولا يجرمنكم"، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين، والثاني: "أن تعتدوا". انتهى. وأصل هذه المادة: - كما قال - القطع، فجرم: حمل على الشيء؛ لقطعه عن غيره، وجرم: "كسب" لانقطاعه إلى الكسب، وجرم بمعنى: "حق"؛ لأن الحق يقطع عليه. قال ابن عيسى الرماني الخليل: لا جرم أن لهم النار ؛ أي: لقد حق، هكذا قاله فجعل بين هذه الألفاظ قدرا مشتركا، وليس عنده من باب الاشتراك اللفظي. الرماني،
و "شنان": معناه بغض، وهو مصدر شنئ؛ أي: أبغض. وقرأ ابن عامر عن وأبو بكر "شنآن" بسكون النون، والباقون بفتحها، وجوزوا في كل [ ص: 190 ] منهما أن يكون مصدرا وأن يكون وصفا، حتى يحكى عن عاصم: أنه قال: من زعم أن "فعلان" إذا سكنت عينه لم يكن مصدرا، فقد أخطأ، إلا أن فعلان بسكون العين قليل في المصادر، نحو: لويته دينه ليانا، بل هو كثير في الصفات، نحو: سكران وبابه، وفعلان بالفتح قليل في الصفات، قالوا: حمار قطوان؛ أي: عسر السير، وتيس عدوان، قال: أبي علي
1688 - ... ... ... ... كتيس ظباء الحلب العدوان
ومثله قول الآخر: - أنشده أبو زيد -
1689 - وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي وفقأت عين الأشوس الأبيان
1690 - وما الحب إلا ما تلذ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
قوله تعالى: "أن صدوكم" قرأ أبو عمرو بكسر "إن"، والباقون بفتحها، فمن كسر فعلى أنها شرطية، والفتح على أنها علة للشنآن؛ أي: لا يكسبنكم - أو لا يحملنكم - بغضكم لقوم لأجل صدهم إياكم عن المسجد الحرام، وهي قراءة واضحة. وقد استشكل الناس قراءة الأبوين من حيث إن الشرط يقتضي أن الأمر المشروط لم يقع، والغرض أن صدهم عن البيت الحرام كان وقد وقع، ونزول هذه الآية متأخر عنه بمدة، فإن الصد وقع عام الحديبية وهي سنة ست، والآية نزلت سنة ثمان، وأيضا فإن وابن كثير مكة كانت عام الفتح في أيديهم، فكيف يصدون عنها ؟ قال ابن جريج، والنحاس، وغيرهما: هذه القراءة منكرة، واحتجوا بما تقدم من الإشكال، ولا إشكال في ذلك. فالجواب عما قالوه من وجهين، أحدهما: أنا لا نسلم أن الصد كان قبل نزول الآية، فإن نزولها عام الفتح ليس مجمعا عليه. وذكر أنها نزلت قبل [ ص: 193 ] الصد، فصار الصد أمرا منتظرا، والثاني: أنه وإن سلمنا أن الصد كان متقدما على نزولها، فيكون المعنى: إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع زمن الحديبية - أو يستديموا ذلك الصد الذي وقع منهم - فلا يجرمنكم، قال اليزيدي ومثله عند مكي: قول الشاعر - وهو سيبويه -: الفرزدق
1691 - أتغضب إن أذنا قتيبة حزنا ... ... ... ...
وذلك شيء قد كان ووقع، وإنما معناه: إن وقع مثل ذلك الغضب، وجواب الشرط ما قبله، يعني: وجواب الشرط دل عليه ما قبله؛ لأن البصريين يمنعون تقديم الجواب إلا أبا زيد. وقال أيضا: ونظير ذلك أن يقول رجل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، بكسر "إن"، لم تطلق عليه بدخولها الأول؛ لأنه أمر ينتظر، ولو فتح لطلقت عليه؛ لأنه أمر كان ووقع، ففتح "أن" لما هو علة لما كان ووقع، وكسرها إنما هو لأمر ينتظر، والوجهان حسنان على معنييهما، وهذا الذي قاله مكي فصل فيه الفقهاء بين من يعرف النحو وبين من لا يعرفه. ويؤيد قراءة الأبوين قراءة مكي "إن يصدوكم"، قال عبد الله بن مسعود: حدثنا أبو عبيد: حجاج عن هارون، قال: قرأ فذكرها، قال: وهذا لا يكون إلا على استئناف الصد، يعني: إن وقع صد آخر مثل ما تقدم عام الحديبية. ابن مسعود
ونظم هذه الآيات على ما هي عليه من أبلغ ما يكون وأفصحه، وليس فيها تقديم ولا تأخير كما زعم بعضهم، فقال: أصل تركيب الآية الأولى: [ ص: 194 ] "غير محلي الصيد وأنتم حرم فإذا حللتم فاصطادوا"، وأصل تركيب الثانية: "ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ولا يجرمنكم"، ونظره بآية البقرة، يعني: "إن الله يأمركم"، وهذا لا حاجة إليه مع أن التقديم والتأخير عند الجمهور من ضرائر الشعر، فيجب تنزيه القرآن عنه، وليست الجملة أيضا من قوله: "وإذا حللتم فاصطادوا" معترضة بين قوله: "ولا آمين البيت الحرام"، وبين قوله: "ولا يجرمنكم"، بل هي مؤسسة ومنشئة حكما، وهو حل الاصطياد عند التحلل من الإحرام، والجملة المعترضة إنما تفيد توكيدا وتسديدا، وهذه مفيدة حكما جديدا كما تقدم.
وقوله: "أن تعتدوا" قد تقدم أنه من متعلقات "لا يجرمنكم" على أنه مفعول ثان، أو على حذف حرف الجر، فمن كسر "إن صدوكم" يكون الشرط وجوابه المقدر في محل جر صفة لـ "قوم"؛ أي: شنآن قوم هذه صفتهم، ومن فتحها فمحلها الجر أو النصب؛ لأنها على حذف لام العلة كما تقدم. قال والمعنى: ولا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه. قال الشيخ: وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب؛ لأنه يمتنع أن يكون مدلول "جرم" حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما، فيمتنع أن يكون "[ أن ] تعتدوا" في محل مفعول به، ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر. وهذا الذي قال لا يتصور أن يتوهمه من له أدنى بصر بالصناعة حتى ينبه عليه. الزمخشري:
وقد تقدم قراءة في نحو: البزي "ولا تعاونوا"، وأن الأصل: "تعاونوا"، [ ص: 195 ] فأدغم، وحذف الباقون إحدى التاءين عند قوله تعالى: ولا تيمموا الخبيث .