آ. ( 5 ) وقوله تعالى: اليوم أحل لكم الكلام فيه كالكلام فيما قبله. وزعم قوم أن المراد بثلاثة الأيام المذكورة هنا وقت واحد، وإنما كرره توكيدا، ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره، وليس بشيء. وادعى بعضهم أن في الكلام تقديما وتأخيرا، وأن الأصل: فاذكروا اسم الله عليه وكلوا مما أمسكن عليكم، وهذا يشبه قول من يعيد الضمير على الجوارح المرسلة. [ ص: 205 ]
قوله: "وطعام الذين" فيه وجهان، الصحيح منهما أنه مبتدأ، وخبره "حل لكم"، أبرز الإخبار بذلك في جملة اسمية اعتناء بالسؤال عنه. وأجاز أن يكون مرفوعا عطفا على مرفوع ما لم يسم فاعله وهو "الطيبات"، وجعل قوله: "حل لكم" خبر مبتدأ محذوف، وهذا ينبغي ألا يجوز البتة لتقدير ما لا يحتاج إليه مع ذهاب بلاغة الكلام. وقوله: أبو البقاء "وطعامكم حل لهم" مبتدأ وخبر، وقياس قول أن يكون "طعام" عطفا على ما قبله، و "حل" خبر مبتدأ محذوف، ولم يذكره كأنه استشعر الصواب. أبي البقاء
قوله: "والمحصنات" في رفعه أيضا وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ خبره محذوف؛ أي: المحصنات حل لكم أيضا، وهذا هو الظاهر. واختار أن يكون معطوفا على "الطيبات"، فإنه قال: أبو البقاء "من المؤمنات" حال من الضمير في "المحصنات"، أو من نفس "المحصنات" إذا عطفتها على "الطيبات"، و "حل" مصدر بمعنى الحال؛ فلذلك لم يؤنث، ولم يثن، ولم يجمع؛ لأنه أحسن الاستعمالين في المصادر الواقعة صفة للأعيان، ويقال في الإتباع: "حل بل"، وهو كقولهم: "حسن بسن، وعطشان نطشان". و "من المؤمنات" حال كما تقدم؛ إما من الضمير في "المحصنات" أو من “المحصنات". وقد تقدم الكلام في اشتقاق هذه اللفظة واختلاف القراء فيها في سورة النساء.
قوله: "إذا آتيتموهن" ظرف العامل فيه أحد شيئين: إما "أحل"، وإما "حل" المحذوف على حسب ما قرر. والجملة بعده في محل خفض [ ص: 206 ] بإضافته إليها، وهي هنا لمجرد الظرفية. ويجوز أن تكون شرطية وجوابها محذوف؛ أي: إذا آتيتموهن أجورهن حللن لكم، والأول أظهر. و "محصنين" حال، وعاملها أحد ثلاثة أشياء: إما "آتيتموهن" وصاحب الحال الضمير المرفوع، وإما "أحل" المبني للمفعول، وإما "حل" المحذوف كما تقدم. و "غير" يجوز فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن ينتصب على أنه نعت لـ "محصنين". والثاني: أنه يجوز نصبه على الحال، وصاحب الحال الضمير المستتر في "محصنين". والثالث: أنه حال من فاعل "آتيتموهن" على أنها حال ثانية منه، وذلك عند من يجوز ذلك. وقوله: "ولا متخذي" يجوز فيه الجر على أنه عطف على "مسافحين"، وزيدت "لا" تأكيدا للنفي المفهوم من "غير"، والنصب على أنه عطف على "غير" باعتبار أوجهها الثلاثة، ولا يجوز عطفه على "محصنين"؛ لأنه مقترن بـ "لا" المؤكدة للنفي المتقدم، ولا نفي مع "محصنين". وتقدم معاني هذه الألفاظ.
وقوله: ومن يكفر بالإيمان تقدم له نظائر. وقيل: المراد بالإيمان: المؤمن به، فهو مصدر واقع موقع المفعول كـ "درهم ضرب الأمير". وقيل: ثم مضاف محذوف؛ أي: بموجب الإيمان، وهو الباري تبارك وتعالى.
قوله: وهو في الآخرة من الخاسرين الظاهر أن الخبر قوله: "من الخاسرين"، فيتعلق قوله: "في الآخرة" بما تعلق به هذا الخبر. وقال العامل في الظرف محذوف، تقديره: وهو خاسر في الآخرة، ودل على المحذوف قوله: "من الخاسرين". فإن جعلت الألف واللام في "الخاسرين" ليستا بمعنى الذين، جاز أن يكون العامل في الظرف "من الخاسرين"، يعني: أنه لو كانت موصولة لامتنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ لأن الموصول لا يتقدم [ ص: 207 ] عليه ما في حيزه، وهذا كما قالوا في قوله: مكي: إني لعملكم من القالين ، وكانوا فيه من الزاهدين ، وتقدير متعلق هذا الظرف وهو "خاسر"، إنما هو بناء على كون "أل" موصولة، بدليل قوله: فإن جعلت الألف واللام ليستا بمعنى "الذين"، وبالجملة فلا حاجة إلى هذا التقدير، بل العامل فيه كما تقدم العامل في الظرف الواقع خبرا وهو الكون المطلق، ولا يجوز أن يكون "في الآخرة" هو الخبر، و "من الخاسرين" متعلق بما تعلق به؛ لأنه لا فائدة في ذلك، فإن جعل "من الخاسرين" حالا من ضمير الخبر وتكون حالا لازمة، جاز، وهو ضعيف في الإعراب، وقد تقدم نظير هذه الآية في البقرة عند قوله: مكي وإنه في الآخرة لمن الصالحين .