الوجه الثاني من توجيه أن تكون الواو عاطفة جملة اسمية على الجملة من قوله: الفارسي: "أن النفس بالنفس"، لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، فإن معنى "كتبنا عليهم أن النفس بالنفس": قلنا لهم: النفس بالنفس، فالجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ. وقال ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى، وذكر ما تقدم، ثم قال: ومثله لما كان المعنى في قوله: ابن عطية: يطاف عليهم بكأس من معين : يمنحون، عطف "وحورا عينا" عليه، فنظر هذه الآية بتلك؛ لاشتراكهما في النظر إلى المعنى دون اللفظ، وهو حسن. قال الشيخ: وهذا من العطف على التوهم، إذ توهم في قوله: "أن النفس بالنفس": النفس بالنفس، وضعفه بأن العطف على التوهم لا ينقاس. نحا إلى هذا المعنى، ولكنه عبر بعبارة أخرى، فقال: الرفع [ للعطف ] على محل والزمخشري "أن النفس"؛ لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس؛ إما لإجراء "كتبنا" مجرى "قلنا"، وإما أن معنى الجملة التي هي "النفس بالنفس" مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة، [ ص: 275 ] تقول: كتبت: الحمد لله، وقرأت: سورة أنزلناها؛ ولذلك قال لو قرئ: "إن النفس بالنفس" بالكسر، لكان صحيحا. قال الشيخ: هذا هو [ الوجه ] الثاني من توجيه الزجاج: إلا أنه خرج عن المصطلح، حيث جعله من العطف على المحل، وليس منه؛ لأن العطف على المحل هو العطف على الموضع، وهو محصور ليس هذا منه، ألا ترى أنا لا نقول: أبي علي، "أن النفس بالنفس" في محل رفع؛ لأن طالبه مفقود، بل "أن" وما في حيزها بتأويل مصدر لفظه وموضعه نصب، إذ التقدير: كتبنا عليهم أخذ النفس. قلت: لم يعن أن "أن" وما في حيزها في محل رفع، فعطف عليها المرفوع حتى يلزمه الشيخ بأن لفظها ومحلها نصب، إنما عنى أن اسمها محله الرفع قبل دخولها، فراعى العطف عليه كما راعاه في اسم "إن" المكسورة. وهذا الرد ليس للشيخ، بل سبقه إليه والزمخشري فأخذه منه. قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون معطوفا على "أن" وما عملت فيه؛ لأنها وما عملت فيه في موضع نصب. انتهى. وليس بشيء لما تقدم. أبو البقاء:
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: فمعنى الحديث: قلنا لهم: النفس بالنفس، فحمل "العين بالعين" على هذا؛ لأن "أن" لو حذفت لاستقام المعنى بحذفها كما استقام بثبوتها، وتكون "النفس" مرفوعة، فصارت "أن" هنا كـ "إن" المكسورة في أن حذفها لا يخل بالجملة، فجاز العطف على محل اسمها، كما يجوز على محل اسم المكسورة، وقد حمل على ذلك: أن الله بريء من المشركين ورسوله ، قال الشيخ "ورسوله" بالرفع معطوف على اسم "أن" وإن كانت مفتوحة؛ لأنها في حكم المكسورة، [ ص: 276 ] وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون. قلت: بلى قد نبه النحويون على ذلك واختلفوا فيه، فجوزه بعضهم وهو الصحيح، وأكثر ما يكون ذلك بعد "علم" أو ما في معناه، كقوله: أبو عمرو: - يعني: ابن الحاجب -
1731 - وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
وقوله: "وأذان من الله" الآية؛ لأن الأذان بمعنى الإعلام.
الوجه الثالث: أن "العين" عطف على الضمير المرفوع المستتر في الجار الواقع خبرا، إذ التقدير: أن النفس بالنفس هي والعين، وكذا ما بعدها، والجار والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبينة للمعنى؛ إذ المرفوع هنا مرفوع بالفاعلية لعطفه على الفاعل المستتر، وضعف هذا بأن هذه أحوال لازمة، والأصل أن تكون منتقلة، وبأنه يلزم العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل بين المتعاطفين، ولا تأكيد، ولا فصل بـ "لا" بعد حرف العطف، كقوله: ما أشركنا ولا آباؤنا ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة، قال وجاز العطف من غير توكيد، كقوله: أبو البقاء: ما أشركنا ولا آباؤنا . قلت: قام الفصل بـ "لا" بين حرف العطف والمعطوف مقام التوكيد، فليس نظيره. وللفارسي [ بحث في قوله: ما أشركنا ولا آباؤنا مع فإن سيبويه، يجعل طول الكلام بـ "لا" عوضا عن التوكيد بالمنفصل، [ ص: 277 ] كما طال ] الكلام في قولهم: حضر القاضي اليوم امرأة، قال سيبويه هذا يستقيم إذا كان قبل حرف العطف، أما إذا وقع بعده فلا يسد مسد الضمير، ألا ترى أنك لو قلت: حضر امرأة القاضي اليوم، لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه. قال الفارسي: وكلام ابن عطية: متجه على النظر النحوي، وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم، فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية؛ لأن "لا" ربطت المعنى، إذ قد تقدمها نفي، ونفت هي أيضا عن الآباء، فيمكن العطف. سيبويه
واختار قراءة رفع الجميع، وهي رواية أبو عبيد لأن أنسا رواها قراءة للنبي صلى الله عليه وسلم. وروى الكسائي؛ عنه عليه السلام أيضا: أنس "أن النفس بالنفس" بتخفيف "أن" ورفع النفس، وفيها تأويلان، أحدهما: أن تكون "أن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف، و "النفس بالنفس" مبتدأ وخبر في محل رفع خبرا لـ "أن" المخففة، كقوله: "أن الحمد لله رب العالمين"، فيكون المعنى كمعنى المشددة. والثاني: أنها "أن" المفسرة؛ لأنها بعدما هو بمعنى القول لا حروفه، وهو "كتبنا"، والتقدير: أي النفس بالنفس، ورجح هذا على الأول بأنه يلزم من الأول وقوع المخففة بعد غير العلم، وهو قليل أو ممنوع، وقد يقال: إن "كتبنا" لما كان بمعنى "قضينا" قرب من أفعال اليقين.
وأما قراءة ومن معه، فالنصب على اسم "أن" لفظا، وهي "النفس" والجار بعده خبره، و "قصاص" خبر "الجروح"؛ أي: وأن الجروح قصاص، وهذا من عطف الجمل، عطفنا الاسم على الاسم والخبر على الخبر، [ ص: 278 ] كقولك: إن زيدا قائم وعمرا منطلق، عطفت "عمرا" على "زيدا"، و "منطلق" على "قائم"، ويكون الكتب شاملا للجميع، إلا أن في كلام نافع ما يقتضي أن يكون "قصاص" خبرا على المنصوبات أجمع، فإنه قال: وقرأ ابن عطية نافع، وحمزة، بنصب ذلك كله، و "قصاص" خبر "أن". وهذا وإن كان يصدق أن أخذ النفس بالنفس والعين بالعين قصاص، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصا بالجروح، وهو محل نظر. وعاصم
وأما قراءة ومن معه، فالمنصوب كما تقدم في قراءة أبي عمرو لكنهم لم ينصبوا "الجروح" قطعا له عما قبله، وفيه أربعة أوجه؛ الثلاثة المذكورة في توجيه قراءة نافع، وقد تقدم إيضاحه. والرابع: أنه مبتدأ وخبره "قصاص"، يعني: أنه ابتداء تشريع، وتعريف حكم جديد. قال الكسائي، فأما "والجروح قصاص"؛ فمن رفعه يقطعه عما قبله، فإنه يحتمل هذه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها في قراءة من رفع "والعين بالعين"، ويجوز أن يستأنف "والجروح قصاص" ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة، ولكنه على الاستئناف وابتداء تشريع. انتهى. إلا أن أبو علي: أبا شامة قال: - قبل أن يحكي عن هذا الكلام - ولا يستقيم في رفع "الجروح" الوجه الثالث، وهو أنه عطف على الضمير الذي في خبر "النفس"، وإن جاز فيما قبلها، وسببه استقامة المعنى في قولك: مأخوذة هي بالنفس، والعين هي مأخوذة بالعين، ولا يستقيم: والجروح مأخوذة قصاص، وهذا معنى قولي لما خلا قوله: "الجروح قصاص" عن الباء في الخبر، خالف الأسماء التي قبلها، فخولف [ ص: 279 ] بينهما في الإعراب. قلت: وهذا الذي قاله واضح، ولم يتنبه له كثير من المعربين. الفارسي
وقال بعضهم: إنما رفع "الجروح" ولم ينصب تبعا لما قبله فرقا بين المجمل والمفسر، يعني: أن قوله: "النفس بالنفس والعين بالعين" مفسر غير مجمل، بخلاف "الجروح" فإنها مجملة؛ إذ ليس كل جرح يجري فيه قصاص، بل ما كان يعرف فيه المساواة، وأمكن ذلك فيه على تفصيل معروف في كتب الفقه. وقال بعضهم: خولف في الإعراب لاختلاف الجراحات وتفاوتها، فإذن الاختلاف في ذلك كالخلاف المشار إليه، وهذان الوجهان لا معنى لهما، ولا ملازمة بين مخالفة الإعراب ومخالفة الأحكام المشار إليها بوجه من الوجوه، وإنما ذكرتها تنبيها على ضعفها.
وقرأ "والأذن بالأذن" سواء كان مفردا أم مثنى، كقوله: نافع: كأن في أذنيه وقرا بسكون الذال، وهو تخفيف للمضموم، كعنق في "عنق"، والباقون بضمها، وهو الأصل. ولا بد من حذف مضاف في قوله: "والجروح قصاص"؛ إما من الأول، وإما من الثاني، وسواء قرئ برفعه أو بنصبه، تقديره: وحكم الجروح قصاص، أو والجروح ذات قصاص.
والقصاص: المقاصة، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة. وقرأ بنصب "النفس"، والأربعة بعدها و "أن الجروح" بزيادة "أن" الخفيفة، ورفع "الجروح"، وعلى هذه القراءة يتعين أن تكون المخففة، ولا يجوز أن تكون المفسرة، بخلاف ما تقدم من قراءة أنس عنه عليه السلام بتخفيف "أن" ورفع [ ص: 280 ] "النفس"، حيث جوزنا فيها الوجهين، وذلك لأنه لو قدرتها التفسيرية وجعلتها معطوفة على ما قبلها فسد، من حيث إن "كتبنا" يقتضي أن يكون عاملا لأجل "أن" المشددة غير عامل لأجل "أن" التفسيرية، فإذا انتفى تسلطه عليها، انتفى تشريكها مع ما قبلها؛ لأنه إذا لم يكن عمل فلا تشريك، فإذا جعلتها المخففة تسلط عمله، فاقتضى العمل التشريك في انصباب معنى الكتب عليهما. وقرأ أبي "فهو كفارته له"؛ أي: التصدق كفارة، يعني: الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها، وهو تعظيم لما فعل، كقوله: أبي: "فأجره على الله".
قوله: "فمن تصدق به"؛ أي: بالقصاص المتعلق بالنفس، أو بالعين، أو بما بعدها، فهو؛ أي: فذلك التصدق، عاد الضمير على المصدر لدلالة فعله عليه، وهو كقوله تعالى: "اعدلوا هو أقرب". والضمير في "له" فيه ثلاثة أوجه، أحدها - وهو الظاهر -: أنه يعود على المتصدق، والمراد به: من يستحق القصاص من مصاب أو ولي؛ أي: فالتصدق كفارة لذلك المتصدق بحقه، وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من الصحابة فمن بعدهم. والثاني: أن الضمير يراد به الجاني، والمراد بالمتصدق كما تقدم مستحق القصاص، والمعنى: أنه إذا تصدق المستحق على الجاني، كان ذلك التصدق كفارة للجاني حيث لم يؤاخذ به. قال وقيل: فهو كفارة له؛ أي: للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه، وإلى هذا ذهب الزمخشري: في آخرين. والثالث: أن الضمير يعود على المتصدق أيضا، لكن المراد به الجاني نفسه، ومعنى كونه متصدقا: أنه إذا جنى جناية ولم يعرف به أحد فعرف هو بنفسه، كان ذلك الاعتراف بمنزلة التصدق الماحي لذنبه وجنايته، قاله [ ص: 281 ] ابن عباس ويحكى عن مجاهد، أنه أصاب إنسانا في طوافه، فلم يعرف الرجل من أصابه، فقال له عروة بن الزبير "أنا أصبتك وأنا عروة: فإن كان يعنيك شيء فها أنا ذا"، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون "تصدق" من الصدقة، وأن يكون من الصدق. قلت: الأول واضح، والثاني معناه أنه يتكلف الصدق؛ لأن ذلك مما يشق. وقوله: عروة بن الزبير، "ومن لم يحكم" يجوز في "من" أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، والفاء في الخبر زائدة لشبهه بالشرط. و "هم" في قوله: "هم الكافرون" ونظائره فصل أو مبتدأ، وكله ظاهر مما تقدم في نظائره.