1762 - لو عصر منه البان والمسك انعصر
والظاهر أن الضمير في "كانوا" عائد على الأحبار والرهبان، ويجوز أن يعود على المتقدمين.
وقوله تعالى حكاية عن اليهود: "يد الله مغلولة" فيه قولان، أحدهما: [ ص: 343 ] أنه خبر محض. وزعم بعضهم أنه على تقدير همزة استفهام، تقديره: أيد الله مغلولة ؟ قالوا ذلك لما قتر عليهم معيشتهم، ولا يحتاجون إلى هذا التقدير. و "بما قالوا" الباء للسببية؛ أي: لعنوا بسبب قولهم، و "ما" مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة اسمية والعائد محذوف. وغل اليد وبسطها هنا استعارة للبخل والجود، وإن كان ليس ثم يد ولا جارحة، وكلام العرب ملآن من ذلك. قالت العرب: فلان ينفق بكلتا يديه، قال:
1763 - يداك يدا مجد، فكف مفيدة وكف إذا ما ضن بالمال تنفق
وقال آخر، هو أبو تمام:
1764 - تعود بسط الكف حتى لو أنه دعاها لقبض لم تطعه أنامله
وقد استعارت العرب ذلك حيث لا يد البتة، ومنه قول لبيد:
1765 - ... ... ... ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
وقال آخر:
1766 - جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه ووهاده
وقالوا: بسط اليأس كفيه في صدري، واليأس معنى لا عين، وقد [ ص: 344 ] جعلوا له كفين مجازا. قال فإن قلت: لم ثنيت اليد في "بل يداه مبسوطتان"، وهي في الزمخشري: "يد الله مغلولة" مفردة ؟ قلت: ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه، وذلك أن غاية ما يبذله السخي من ماله بنفسه أن يعطيه بيديه جميعا، فبنى المجاز على ذلك. وقوله: "غلت أيديهم ولعنوا" يحتمل الخبر المحض، ويحتمل أن يراد به الدعاء عليهم. وفي مصحف عبد الله: "بسطان"، يقال: "يد بسط" على زنة "ناقة سرح، وأحد، ومشية سجح"؛ أي: مبسوطة بالمعروف، وقرأ "بسيطتان"، يقال: يد بسيطة؛ أي: مطلقة بالمعروف. عبد الله:
قوله: "ينفق كيف يشاء" في هذه الجملة خمسة أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أن لا محل لها من الإعراب؛ لأنها مستأنفة. والثاني: أنها في محل رفع؛ لأنها خبر ثان لـ "يداه". والثالث: أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في "مبسوطتان"، وعلى هذين الوجهين فلا بد من ضمير مقدر عائد على المبتدإ، أو على ذي الحال؛ أي: ينفق بهما، وحذف مثل ذلك قليل. وقال "ينفق كيف يشاء" مستأنف، ولا يجوز أن يكون حالا من الهاء - يعني: في "يداه" - لشيئين، أحدهما: أن الهاء مضاف إليها. والثاني: أن الخبر يفصل بينهما، ولا يجوز أن تكون حالا من اليدين؛ إذ ليس فيها ضمير يعود إليهما. قلت: قوله: "أحدهما: أن الهاء مضاف إليها" ليس ذلك بمانع؛ لأن الممنوع إنما هو مجيء الحال من المضاف إليه، إذا لم يكن [ ص: 345 ] المضاف جزءا من المضاف إليه، أو كجزئه، أو عاملا فيه، وهذا من النوع الأول، فلا مانع فيه. وقوله: "والثاني: أن الخبر يفصل بينهما"، هذا أيضا ليس بمانع، ومنه: "وهذا بعلي شيخا"، إذا قلنا: إن "شيخا" حال من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه. وقوله: "إذ ليس فيها ضمير"، قد تقدم أن العائد يقدر؛ أي: ينفق بهما. أبو البقاء:
الرابع: أنها حال من "يداه"، وفيه خلاف - أعني: مجيء الحال من المبتدإ - ووجه المنع أن العامل في الحال هو العامل في صاحبها، والعامل في صاحبها أمر معنوي لا لفظي، وهو الابتداء، وهذا على أحد الأقوال في العامل في الابتداء. الخامس: أنها حال من الهاء في "يداه"، ولا اعتبار بما منعه لما تقدم من تصحيح ذلك. أبو البقاء
و "كيف" في مثل هذا التركيب شرطية، نحو: كيف تكون أكون، ومفعول المشبه محذوف، وكذلك جواب هذا الشرط أيضا محذوف مدلول عليه بالفعل السابق لـ "كيف"، والمعنى: ينفق كما يشاء أن ينفق ينفق، ويبسط في السماء كيف يشاء أن يبسطه يبسطه، فحذف مفعول "يشاء"، وهو "أن" وما بعدها، وقد تقدم أن مفعول "يشاء، ويريد" لا يذكران إلا لغرابتهما، وحذف أيضا جواب "كيف"، وهو "ينفق" المتأخر، و "يبسط" المتأخر، لدلالة "ينفق، ويبسط" الأولين، وهو نظير قولك: أقوم إن يقم زيد، ولا جائز أن يكون "ينفق" المتقدم عاملا في "كيف"؛ لأن لها صدر الكلام، [ ص: 346 ] وما له صدر الكلام لا يعمل فيه إلا حرف الجر أو المضاف. وقال "كيف" سؤال عن حال، وهي نصب بـ "يشاء". قال الشيخ: ولا يعقل هنا كونها سؤالا عن حال. قلت: وقد تقدم الكلام عليها مشبعا عند قوله: الحوفي: يصوركم في الأرحام كيف يشاء ، وذكرنا عبارة الناس فيها.
قوله: "ما أنزل": "ما" هنا موصولة اسمية في محل رفع؛ لأنها فاعل بقوله: "ليزيدن"، ولا يجوز أن تكون "ما" مصدرية، و "إليك" قائم مقام الفاعل لـ "أنزل"، ويكون التقدير: وليزيدن كثيرا الإنزال إليك؛ لأنه لم يعلم نفس المنزل، والذي يزيدهم إنما هو المنزل لا نفس الإنزال. وقوله: "منهم" صفة لـ "كثيرا" فيتعلق بمحذوف، و "طغيانا" مفعول ثان لـ "يزيد". وقوله: "إلى يوم القيامة" متعلق بـ "ألقينا"، ويجوز أن يتعلق بقوله: "والبغضاء"؛ أي: إن التباغض بينهم إلى يوم القيامة، ولا يجوز أن يتعلق بالعداوة؛ لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي وهو المعطوف، وعلى هذا فلا يجوز أن تكون المسألة من التنازع؛ لأن شرطه تسلط كل من العاملين، والعامل الأول هنا لو سلط على المتنازع فيه لم يجز للمحذور المذكور. وقد نقل بعضهم أنه يجوز التنازع في فعلي التعجب مع التزام إعمال الثاني؛ لأنه لا يفصل بين فعل التعجب ومعموله، وهذا مثله؛ أي: يلتزم إعمال العامل الثاني، وهو خارج عن قياس التنازع، وتقدم لك نظيره. والفرق بين العداوة والبغضاء: أن العداوة كل شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء لا تتجاوز النفوس، قاله وقال الشيخ: العداوة أخص من البغضاء؛ لأن كل عدو مبغض، وقد يبغض من ليس بعدو. [ ص: 347 ] ابن عطية.
قوله: "للحرب" فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ "أوقدوا"؛ أي: أوقدوها لأجل الحرب. والثاني: أنه صفة لـ "نارا"، فيتعلق بمحذوف، وهل الإيقاد حقيقة أو مجاز ؟ قولان. و "أطفأها الله" جواب "كلما"، وهو أيضا حقيقة أو مجاز على حسب ما تقدم. وقوله: "فسادا" قد تقدم نظيره، وأنه يجوز أن يكون مصدرا من المعنى، وحينئذ لك اعتباران، أحدهما: رد الفعل لمعنى المصدر. والثاني: رد المصدر لمعنى الفعل، وأن يكون حالا؛ أي: يسعون سعي فساد، أو يفسدون بسعيهم فسادا، أو يسعون مفسدين، وأن يكون مفعولا من أجله؛ أي: يسعون لأجل الفساد. والضمير في "بينهم" يجوز أن يعود على اليهود وحدهم؛ لأنهم فرق مختلفة وطوائف متشعبة، وأن يعود على اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم في قوله تعالى: "لا تتخذوا اليهود والنصارى"، ولاندراج الصنفين في قوله: " يا أهل الكتاب " ، والألف واللام في "الأرض" يجوز أن تكون للجنس وأن تكون للعهد.