وقد تجرأ على هذه القراءة وزيفها، فقال: التشديد للتكرير [ مرة ] من بعد مرة، ولست آمن أن توجب هذه القراءة سقوط الكفارة في اليمين الواحدة؛ لأنها لم تكرر. وقد وهموه الناس في ذلك، وذكروا تلك المعاني المتقدمة، فسلمت القراءة تلاوة ومعنى، ولله الحمد. أبو عبيد
وأما "عاقدت" فيحتمل أن يكون بمعنى المجرد، نحو: "جاوزت الشيء وجزته". وقال "عاقدتم" يحتمل أمرين، أحدهما: أن يكون بمعنى [ ص: 404 ] فعل، كطارقت النعل وعاقبت اللص، والآخر: أن يراد به فاعلت التي تقتضي فاعلين، كأن المعنى: بما عاقدتم عليه الأيمان، عداه بـ "على"، لما كان بمعنى عاهد، قال: الفارسي: بما عاهد عليه الله ، كما عدى: ناديتم إلى الصلاة بـ "إلى"، وبابها أن تقول: ناديت زيدا، [ نحو ]: وناديناه من جانب الطور ، لما كانت بمعنى: دعوت إلى كذا، قال: ممن دعا إلى الله ، ثم اتسع فحذف الجار ونقل الفعل إلى المفعول، ثم حذف الضمير العائد من الصلة إلى الموصول، إذ صار: "بما عاقدتموه الأيمان"، كما حذف من قوله: فاصدع بما تؤمر . قلت: يريد - رحمه الله -: أن يبين معنى المفاعلة، فأتى بهذه النظائر للتضمين ولحذف العائد على التدريج، والمعنى: بما عاقدتم عليه الأيمان وعاقدتكم الأيمان عليه، فنسب المعاقدة إلى الأيمان مجازا. ولقائل أن يقول: قد لا نحتاج إلى عائد حتى نحتاج إلى هذا التكلف الكثير، وذلك بأن نجعل "ما" مصدرية، والمفعول محذوف تقديره: بما عاقدتم غيركم الأيمان؛ أي: بمعاقدتكم غيركم الأيمان، ونخلص من مجاز آخر، وهو نسبة المعاقدة إلى الأيمان، فإن في هذا الوجه نسبة المعاقدة للغير وهي نسبة حقيقة، وقد نص على ذلك - أعني: هذا الوجه - جماعة.
وقد تعقب الشيخ على أبي علي كلامه، فقال: قوله: "إنه مثل: طارقت النعل، وعاقبت اللص" ليس مثله؛ لأنك لا تقول: طرقت [ ص: 405 ] ولا عقبت، وتقول: عاقدت اليمين وعقدتها. وهذا غير لازم لأبي علي؛ لأن مراده أنه مثله من حيث إن المفاعلة بمعنى: أن المشاركة من اثنين منتفية عنه، كانتفائها من عاقبت وطارقت، أما كونه يقال فيه أيضا كذا، فلا يضره ذلك في التشبيه. وقال أيضا: تقديره: حذف حرف الجر ثم الضمير على التدرج بعيد، وليس بنظير "فاصدع بما تؤمر"؛ لأن "أمر" يتعدى بنفسه تارة وبحرف الجر أخرى، وإن كان الأصل الحرف، وأيضا فـ "ما" في "فاصدع بما" لا يتعين أن تكون بمعنى الذي، بل الظاهر أنها مصدرية، وكذلك ههنا الأحسن أن تكون مصدرية، لمقابلتها بالمصدر وهو اللغو.
وقد تقدم في سورة النساء قوله تعالى: والذين عقدت أيمانكم ، و "عاقدت"، وذكرت لك ما فيهما، فصار في ثلاث قراءات في المشهور، وفي تيك قراءتان، وكنت قد ذكرت أنه روي عن في سورة النساء: "عقدت" بالتشديد، فيكون فيها أيضا ثلاث قراءات، إلا أنه اتفاق غريب، فإن حمزة من أصحاب التخفيف في هذه السورة، وقد روي عنه التثقيل في النساء. قوله تعالى: حمزة فكفارته إطعام مبتدأ وخبر، والضمير في "فكفارته" فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه يعود على الحنث الدال عليه سياق الكلام، وإن لم يجر له ذكر؛ أي: فكفارة الحنث. الثاني: أنه يعود على "ما" إن جعلناها موصولة اسمية، وهو على حذف مضاف؛ أي: فكفارة نكثه، كذا قدره . والثالث: أنه يعود على العقد لتقدم الفعل الدال عليه. الرابع: أن يعود على اليمين، وإن كانت مؤنثة؛ لأنها بمعنى الحلف، قالهما الزمخشري ، وليسا بظاهرتين. و "إطعام" مصدر مضاف لمفعوله، وهو مقدر [ ص: 406 ] بحرف وفعل مبني للفاعل؛ أي: فكفارته أن يطعم الحانث عشرة، وفاعل المصدر يحذف كثيرا، ولا ضرورة تدعو إلى تقديره بفعل مبني للمفعول؛ أي: أن يطعم عشرة، لأن في ذلك خلافا تقدم التنبيه عليه، فعلى الأول يكون محل "عشرة" نصبا، وعلى الثاني يكون محلها رفعا على ما لم يسم فاعله، ولذلك فائدة تظهر في التابع، فإذا قلت: "يعجبني أكل الخبز"، فإن قدرته مبنيا للفاعل، فتتبع "الخبز" بالجر على اللفظ والنصب على المحل، وإن قدرته مبنيا للمفعول أتبعته جرا ورفعا، فتقول: يعجبني أكل الخبز، والسمن، والسمن، والسمن، وفي الحديث: " أبو البقاء نهى عن قتل الأبتر وذو الطفيتين "، برفع "ذو" على معنى: أن يقتل الأبتر. قال : والجيد أن يقدر - أي: المصدر - بفعل قد سمي فاعله، لأن ما قبله وما بعده خطاب. قلت: فهذه قرينة تقوي ذلك؛ لأن المعنى: فكفارته أن تطعموا أنتم أيها الحالفون، وقد قدمت لك أن تقديره بالمبني للفاعل هو الراجح، ولو لم توجد قرينة؛ لأنه الأصل. أبو البقاء
قوله: "من أوسط" فيه وجهان، أحدهما: أنه في محل رفع خبرا لمبتدأ محذوف يبينه ما قبله، تقديره: طعامهم من أوسط، ويكون الكلام قد تم عند قوله: "مساكين"، وسيأتي إيضاح هذا بزيادة قريبا إن شاء الله تعالى. والثاني: أنه في موضع نصب؛ لأنه صفة للمفعول الثاني، والتقدير: قوتا أو طعاما كائنا من أوسط، وأما المفعول الأول فهو "عشرة" المضاف إليه المصدر، و "ما" موصولة اسمية، والعائد محذوف؛ أي: من أوسط الذي تطعمونه، وقدره [ ص: 407 ] مجرورا بـ "من"، فقال: "الذي تطعمون منه". وفيه نظر؛ لأن من شرط العائد المجرور في الحذف أن يتحد الحرفان والمتعلقان، والحرفان هنا وإن اتفقا، وهما "من، ومن"، إلا أن العامل اختلف، فإن "من" الثانية متعلقة بـ "تطعمون"، والأولى متعلقة بمحذوف وهو الكون المطلق؛ لأنها وقعت صفة للمفعول المحذوف، وقد يقال: إن الفعل لما كان منصبا على قوله: أبو البقاء "من أوسط"، فكأنه عامل فيه، وإنما قدرنا مفعولا لضرورة الصناعة، فإن قلت: الموصول لم ينجر بـ "من" إنما انجر بالإضافة. فالجواب: أن المضاف إلى الموصول كالموصول في ذلك، نحو: مر بغلام الذي مررت.
و "أهليكم" مفعول أول لـ "تطعمون"، والثاني محذوف كما تقدم؛ أي: تطعمونه أهليكم. و "أهليكم" جمع سلامة، ونقصه من الشروط كونه ليس علما ولا صفة، والذي حسن ذلك أنه كثيرا ما يستعمل استعمال "مستحق لكذا" في قولهم: "هو أهل لكذا"؛ أي: مستحق له، فأشبه الصفات فجمع جمعها. وقال تعالى: شغلتنا أموالنا وأهلونا ، قوا أنفسكم وأهليكم نارا ، وفي الحديث: " فقوله: "أهلوا الله" جمع حذفت نونه للإضافة، ويحتمل أن يكون مفردا، فيكتب: "أهل الله" فهو في اللفظ واحد. إن لله أهلين "، قيل: يا رسول الله: من هم ؟ قال: قراء القرآن هم أهل الله وخاصته،
وقرأ "أهاليكم" بسكون الياء، وفيه تخريجان، أحدهما: أن "أهالي" جمع تكسير لـ "أهلة"، فهو شاذ في القياس، [ ص: 408 ] كـ "ليلة وليال". قال جعفر الصادق: "أهال" بمنزلة "ليال"، واحدها أهلاة وليلاة، والعرب تقول: أهل وأهلة، قال الشاعر: ابن جني:
1806 - وأهلة ود قد سررت بودهم ... ... ... ...
وقياس قول أبي زيد أن تجعله جمعا لواحد مقدر، نحو: أحاديث وأعاريض، وإليه يشير قول "أهال بمنزلة ليال"، واحدها: أهلاة وليلاة، فهذا يحتمل أن يكون بطريق السماع، ويحتمل أن يكون بطريق القياس، كما يقول أبو زيد. والثاني: أن هذا اسم جمع لأهل. قال ابن جني: : كالليالي في جمع ليلة، والأراضي في جمع أرض. قوله: "في جمع ليلة وجمع أرض"، أراد: بالجمع اللغوي؛ لأن اسم الجمع جمع في المعنى، ولا يريد أنه جمع "ليلة، وأرض" صناعة؛ لأنه قد فرضه أنه اسم جمع، فكيف يجلعه جمعا اصطلاحا ؟ الزمخشري
وكان قياس قراءة جعفر تحريك الياء بالفتحة لخفتها، ولكنه شبه الياء بالألف، فقدر فيها الحركة، وهو كثير في النظم، كقول النابغة:
1807 - ردت عليه أقاصيه ولبده ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد [ ص: 409 ]
وقول الآخر:
1808 - كأن أيديهن بالقاع القرق أيدي جوار يتعاطين الورق
وقد مضى ذلك بأشبع من هذا.
قوله تعالى: "أو كسوتهم" فيه وجهان، أحدهما: أنه نسق على "إطعام"؛ أي: فكفارته إطعام عشرة، أو كسوة تلك العشرة. والثاني: أنه عطف على محل "من أوسط"، كذا قاله ، وهذا الذي قاله إنما يتمشى على وجه سبق لك في قوله: الزمخشري "من أوسط"، وهو أن يكون "من أوسط" خبرا لمبتدأ محذوف يدل عليه ما قبله، تقديره: طعامهم من أوسط، فالكلام عنده تام على قوله: عشرة مساكين ، ثم ابتدأ إخبارا آخر بأن الطعام يكون من أوسط كذا، وأما إذا قلنا: إن "من أوسط" هو المفعول الثاني، فيستحيل عطف "كسوتهم" عليه لتخلفهما إعرابا.
وقرأ الجمهور: "كسوتهم" بكسر الكاف. وقرأ ، إبراهيم النخعي وأبو عبد الرحمن السلمي، بضمها، وقد تقدم في البقرة أنهما لغتان في المصدر، وفي الشيء المكسو، قال وسعيد بن المسيب : "كالقدوة في القدوة، والإسوة في الأسوة"، إلا أن الذي قرأ في البقرة بضمها هو الزمخشري فلم يذكروه هنا، ولا ذكروا هؤلاء هناك. [ ص: 410 ] طلحة،
وقرأ سعيد بن جبير وابن السميفع: "أو كأسوتهم" بكاف الجر الداخلة على "أسوة". قال : بمعنى: أو مثل ما تطعمون أهليكم، إسرافا كان أو تقتيرا، لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم، ولكن تواسون بينهم. فإن قلت: ما محل الكاف ؟ قلت: الرفع، تقديره: أو طعامهم كأسوتهم، بمعنى: كمثل طعامهم إن لم يطعموهم الأوسط. انتهى. وكان قد تقدم أنه يجعل "من أوسط" مرفوع المحل خبرا لمبتدأ محذوف، فتكون الكاف عنده مرفوعة عطفا على "من أوسط". وقال الزمخشري قريبا من هذا، فإنه قال: فالكاف في موضع رفع؛ أي: أو مثل أسوة أهليكم. وقال الشيخ: إنه في موضع نصب عطفا على محل أبو البقاء "من أوسط"؛ لأنه عنده مفعول ثان. إلا أن هذه القراءة تنفي الكسوة من الكفارة، وقد أجمع الناس على أنها إحدى الخصال الثلاث، لكن لصاحب هذه القراءة أن يقول: استفيدت الكسوة من السنة، أما لو قام الإجماع على أن مستند الكسوة في الكفارة من الآية، فإنه يصح الرد على هذا القارئ.
قوله: أو تحرير رقبة عطف على "إطعام"، وهو مصدر مضاف لمفعوله، والكلام عليه كالكلام على "إطعام عشرة" من جواز تقديره بفعل مبني للفاعل، أو للمفعول، وما قيل في ذلك. وقوله: فمن لم يجد فصيام ، كقوله في النساء: فمن لم يجد فصيام شهرين ، وقد تقدم ذلك محررا.
قوله: "إذا حلفتم" قال : منصوب على الظرف وناصبه "كفارة"؛ أي: ذلك الإطعام، أو ما عطف عليه يكفر عنكم حنث اليمين وقت [ ص: 411 ] حلفكم. وقال أبو البقاء : وذلك المذكور كفارة، ولو قيل: تلك كفارة، لكان صحيحا، بمعنى: تلك الأشياء، أو التأنيث للكفارة، والمعنى: إذا حلفتم حنثتم، فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأن الكفارة إنما تجب بالحنث بالحلف لا بنفس الحلف. ولا بد من هذا الذي ذكره الزمخشري ، وهو تقدير الحنث، ولذلك عيب على الزمخشري قوله: العامل في "إذا": كفارة أيمانكم؛ لأن المعنى: ذلك يكفر أيمانكم وقت حلفكم، فقيل له: الكفارة ليست واقعة في وقت الحلف، فكيف يعمل في الظرف ما لا يقع فيه ؟ وظاهر الآية أن "إذا" متمحضة الظرفية، وليس فيها معنى الشرط، وهو غير الغالب فيها، وقد يجوز أن تكون شرطا، ويكون جوابها محذوفا على قاعدة البصريين يدل عليه ما تقدم، أو هو نفس المتقدم عند أبي البقاء أبي زيد والكوفيين ، والتقدير: إذا حلفتم وحنثتم، فذلك كفارة إثم أيمانكم، كقولهم: أنت ظالم إن فعلت. والكاف في قوله: "كذلك يبين" نعت لمصدر محذوف عند جماهير المعربين؛ أي: يبين الله آياته تبيينا مثل ذلك التبيين، وعند أنه حال من ضمير ذلك المصدر على ما عرف غير مرة. سيبويه