قوله: "هل يستطيع" قرأ الجمهور: "يستطيع" بياء الغيبة، "ربك" مرفوعا بالفاعلية، : "تستطيع" بتاء الخطاب والكسائي لعيسى، و "ربك" بالنصب على التعظيم، وقاعدته أنه يدغم لام "هل" في أحرف منها هذا المكان، وبقراءة قرأت الكسائي وكانت تقول: "الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربك"، كأنها - رضي الله عنها - نزهتهم عن هذه المقالة الشنيعة أن تنسب إليهم، وبها قرأ عائشة، أيضا، معاذ وعلي، وابن عباس، في آخرين، وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة: هل تحتاج إلى حذف مضاف أم لا ؟ فجمهور المعربين يقدرون: هل تستطيع سؤال ربك، وقال وسعيد بن جبير "وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير "سؤال" على أن يكون المعنى: هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك، فيرد المعنى - ولا بد - إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ". قال الشيخ: "وما قاله غير ظاهر؛ لأن فعله تعالى وإن كان مسببا عن الدعاء، فهو غير مقدور الفارسي: لعيسى". واختار هذه القراءة، قال: "لأن القراءة الأخرى تشبه أن يكون الحواريون شاكين، وهذه لا توهم ذلك". قلت: وهذا بناء من الناس على أنهم كانوا مؤمنين، وهذا هو الحق. [ ص: 500 ] قال أبو عبيد "لا يجوز لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله تعالى"، وبهذا يظهر أن قول ابن الأنباري: أنهم ليسوا مؤمنين، ليس بجيد، وكأنه خارق للإجماع. قال الزمخشري: : "ولا خلاف أحفظه أنهم كانوا مؤمنين". وأما القراءة الأولى فلا تدل له؛ لأن الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة، منها: أن معناه: هل يسهل عليك أن تسأل ربك، كقولك لآخر: هل تستطيع أن تقوم ؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك. ومنها: أنهم سألوه سؤال مستخبر: هل ينزل أم لا، فإن كان ينزل فاسأله لنا. ومنها: أن المعنى هل يفعل ذلك، وهل يقع منه إجابة لذلك ؟ ومنه ما قيل ابن عطية لعبد الله بن زيد: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ أي: هل تحب ذلك ؟ وقيل: المعنى: هل يطلب ربك الطاعة من نزول المائدة ؟ قال أبو شامة: "مثل ذلك في الإشكال ما رواه الهيثم - وإن كان ضعيفا -، عن عن ثابت، أنس، أبا طالب في مرض، فقال: يا ابن أخي؛ ادع ربك الذي تعبده فيعافيني. فقال: اللهم اشف عمي، فقام أبو طالب كأنما نشط من عقال. فقال: يا بن أخي؛ إن ربك الذي تعبد ليطيعك. قال: وأنت يا عماه لو أطعته، أو: لئن أطعت الله ليطيعنك؛ أي: ليجيبنك إلى مقصودك. قلت: والذي حسن ذلك المقابلة منه صلى الله عليه وسلم للفظ عمه، كقوله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد ومكروا ومكر الله . وقيل: التقدير: هل يطيع ؟ فالسين زائدة كقولهم: استجاب وأجاب، قال:
1844 - وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب [ ص: 501 ]
وبهذه الأجوبة يستغنى عن قول من قال: "إن يستطيع زائدة" والمعنى: هل ينزل ربك؛ لأنه لا يزال من الأفعال إلا "كان" بشرطين، وشذ زيادة غيرها في مواضع عددتها في غير هذا الكتاب، على أن الكوفيين يجيزون زيادة بعض الأفعال مطلقا، حكوا: "قعد فلان يتهكم بي"، وأنشدوا:
1845 - على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد
وحكى البصريون على وجه الشذوذ: "ما أصبح أبردها وما أمسى أدفأها" يعنون: الدنيا.
قوله: "أن ينزل" في قراءة الجماعة في محل نصب مفعولا به؛ أي: الإنزال. وقال : "والتقدير: على أن ينزل، أو في أن ينزل، ويجوز ألا يحتاج إلى حرف جر على أن يكون "يستطيع" بمعنى "يطيق". قلت: إنما احتاج إلى تقدير حرفي الجر في الأول؛ لأنه حمل الاستطاعة على الإجابة، وأما قوله أخيرا: "إن يستطيع بمعنى يطيق"، فإنما يظهر كل الظهور على رأي أبو البقاء من كونهم ليسوا بمؤمنين. وأما في قراءة الزمخشري فقالوا: هي في محل نصب على المفعولية بالسؤال المقدر؛ أي: هل تستطيع أنت أن تسأل ربك الإنزال، فيكون المصدر المقدر مضافا لمفعوله الأول وهو "ربك"، فلما حذف المصدر انتصب. وفيه نظر من أنهم أعملوا المصدر مضمرا، وهو لا يجوز عند البصريين، يؤولون ما ورد ظاهره ذلك. ويجوز أن يكون "أن [ ص: 502 ] ينزل" بدلا من "ربك" بدل اشتمال، والتقدير: هل تستطيع؛ أي: هل تطيق إنزال الله تعالى مائدة بسبب دعائك ؟ وهو وجه حسن. الكسائي
و "مائدة" مفعول "ينزل"، والمائدة: الخوان عليه طعام، فإن لم يكن عليه طعام فليست بمائدة، هذا هو المشهور، إلا أن قال: "والمائدة: الطبق الذي عليه طعام، ويقال لكل واحد منها مائدة"، وهو مخالف لما عليه المعظم، وهذه المسألة لها نظائر في اللغة، لا يقال للخوان: مائدة، إلا وعليه طعام، وإلا فهو خوان، ولا يقال: كأس، إلا وفيها خمر، وإلا فهي قدح، ولا يقال: ذنوب وسجل، إلا وفيه ماء، وإلا فهو دلو، ولا يقال: جراب، إلا وهو مدبوع، وإلا فهو إهاب، ولا قلم إلا وهو مبري، وإلا فهو أنبوب. واختلف اللغويون في اشتقاقها، فقال الراغب "هي من ماد يميد: إذ تحرك، ومنه قوله: الزجاج: رواسي أن تميد بهم ، ومنه: ميد البحر"، وهو ما يصيب راكبه، فكأنها تميد بما عليها من الطعام، قال: "وهي فاعلة على الأصل". وقال "هي فاعلة بمعنى مفعولة مشتقة من ماده بمعنى أعطاه، وامتاده بمعنى استعطاه، فهي بمعنى مفعولة"، قال: أبو عبيد: "عيشة راضية"، وأصلها أنها ميد بها صاحبها؛ أي: أعطيها، والعرب تقول: ما دني فلان يميدني: إذا أحسن إلي وأعطاني. وقال "سميت مائدة؛ لأنها غياث وعطاء، من قول العرب: ماد فلان فلانا: إذا أحسن إليه، وأنشد: [ ص: 503 ] أبو بكر بن الأنباري:
1846 - إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي: المحسن لرعيته، وهي فاعلة من الميد بمعنى معطية، فهو قريب من قول في الاشتقاق، إلا أنها عنده بمعنى فاعله على بابها. أبي عبيد وابن قتيبة وافق في كونها بمعنى مفعولة، قال: "لأنها يماد بها الآكلون؛ أي: يعطونها". وقيل: هي من الميد وهو الميل، وهذا هو معنى قول أبا عبيد قوله: الزجاج. "من السماء" يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ "مائدة"؛ أي: مائدة كائنة من السماء؛ أي: نازلة منها.