سورة الكهف
فصل في نزولها
روى عن أبو صالح أن سورة ( الكهف ) مكية، وكذلك قال ابن عباس الحسن، ومجاهد، وهذا إجماع المفسرين من غير خلاف نعلمه، إلا أنه قد روي عن وقتادة . ابن عباس أن منها آية مدنية، وهي قوله: وقتادة واصبر نفسك [ الكهف: 28 ] . وقال من أولها إلى قوله تعالى: مقاتل: صعيدا جرزا [ الكهف: 8 ] مدني، و قوله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات [ الكهف: 107، 108 ] الآيتان مدنية، وباقيها مكي . وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أبو الدرداء " . [ ص: 103 ] من حفظ عشر آيات من أول الكهف، ثم أدرك الدجال لم يضره، ومن حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنـزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا .
قوله تعالى: " الحمد لله " قد شرحناه في أول ( الفاتحة ) . والمراد بعبده هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب: القرآن، تمدح بإنزاله ; لأنه إنعام على الرسول خاصة، وعلى الناس عامة . قال العلماء باللغة والتفسير: في هذه الآية تقديم وتأخير، تقديرها: أنزل على عبده الكتاب " قيما " ; أي: مستقيما عدلا . وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، والنخعي، ( قيما ) بكسر القاف وفتح الياء، وقد فسرناه في ( الأنعام: 161 ) . والأعمش:
قوله تعالى: " ولم يجعل له عوجا " ; أي: لم يجعل فيه اختلافا، وقد سبق بيان العوج في ( آل عمران: 99 ) .
قوله تعالى: " لينذر بأسا شديدا " ; أي: عذابا شديدا، " من لدنه " ; أي: من عنده، ومن قبله، والمعنى: لينذر الكافرين، " ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم " ; أي: بأن لهم " أجرا حسنا " وهو الجنة . " ماكثين " ; [ ص: 104 ] أي: مقيمين، وهو منصوب على الحال . " وينذر " بعذاب الله " الذين قالوا اتخذ الله ولدا " وهم اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، والنصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون حين قالوا: الملائكة بنات الله، " ما لهم به " ; أي: بذلك القول " من علم " ; لأنهم قالوا: افترى على الله، " ولا لآبائهم " الذين قالوا ذلك، " كبرت " ; أي: عظمت " كلمة " الجمهور على النصب . وقرأ ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وأبو رزين، وأبو رجاء، ويحيى بن يعمر، وابن محيصن، ( كلمة ) بالرفع . قال وابن أبي عبلة: من نصب أضمر: كبرت تلك الكلمة كلمة، ومن رفع لم يضمر شيئا، كما تقول: عظم قولك . وقال الفراء من نصب فالمعنى: كبرت مقالتهم: اتخذ الله ولدا كلمة، و " كلمة " منصوب على التمييز . ومن رفع فالمعنى: عظمت كلمة هي قولهم: اتخذ الله ولدا . الزجاج:
قوله تعالى: " تخرج من أفواههم " ; أي: إنها قول بالفم لا صحة لها، ولا دليل عليها، " إن يقولون " ; أي: ما يقولون " إلا كذبا " . ثم عاتبه على حزنه لفوت ما كان يرجو من إسلامهم، فقال: " فلعلك باخع نفسك " وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، ( باخع نفسك ) بكسر السين على الإضافة . قال المفسرون واللغويون: فلعلك مهلك نفسك، وقاتل نفسك، وأنشد وقتادة: أبو عبيدة لذي الرمة:
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
أي: نحته [ ص: 105 ]
فإن قيل: كيف قال: " فلعلك " والغالب عليها الشك، والله عالم بالأشياء قبل كونها ؟
فالجواب: أنها ليست بشك، إنما هي مقدرة تقدير الاستفهام الذي يعني به التقرير، فالمعنى: هل أنت قاتل نفسك ؟ لا ينبغي أن يطول أساك على إعراضهم، فإن من حكمنا عليه بالشقوة لا تجدي عليه الحسرة، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى: " على آثارهم " ; أي: من بعد توليهم عنك، " إن لم يؤمنوا بهذا الحديث " يعني: القرآن، " أسفا " وفيه أربعة أقوال:
أحدها: حزنا، قاله ابن عباس والثاني: جزعا، قاله وابن قتيبة . والثالث: غضبا، قاله مجاهد . والرابع: ندما، قاله قتادة . وقال السدي . ندما وتلهفا وأسى . قال أبو عبيدة: الأسف: المبالغة في الحزن أو الغضب، يقال: قد أسف الرجل فهو أسيف، قال الشاعر: الزجاج:
أرى رجلا منهم أسيفا كأنما يضم إلى كشحيه كفا مخضبا
وهذه الآية يشير بها إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحرص على إيمان قومه ; لئلا يؤدي ذلك إلى هلاك نفسه بالأسف .