واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى [ ص: 216 ] يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا .
قوله تعالى: " واذكر في الكتاب " يعني: القرآن، " مريم إذ انتبذت " قال تنحت واعتزلت، " أبو عبيدة: مكانا شرقيا " مما يلي المشرق، وهو عند العرب خير من الغربي .
قوله تعالى: " فاتخذت من دونهم " يعني: أهلها، " حجابا " ; أي: سترا وحاجزا، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ضربت سترا، قاله عن أبو صالح ابن عباس .
والثاني: أن الشمس أظلتها، فلم يرها أحد منهم، وذلك مما سترها الله به، [ وروي ] هذا المعنى عن أيضا . ابن عباس
والثالث: أنها اتخذت حجابا من الجدران، قاله عن أشياخه . السدي
وفي سبب انفرادها عنهم قولان:
أحدهما: [ أنها ] انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط، قاله ابن عباس .
والثاني: لتفلي رأسها، قاله عطاء .
قوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا " وهو جبريل في قول الجمهور . وقال صاحب روحنا وهو ابن الأنباري: جبريل . والروح بمعنى: الروح والفرح، ثم تضم الراء لتحقيق مذهب الاسم، وإبطال طريق المصدر، ويجوز أن يراد بالروح هاهنا: الوحي، وجبريل صاحب الوحي .
وفي وقت مجيئه إليها ثلاثة أقوال:
[ ص: 217 ] أحدها: وهي تغتسل . والثاني: بعد فراغها ولبسها الثياب . والثالث: بعد دخولها بيتها . وقد قيل: المراد بالروح هاهنا: [ الروح ] الذي خلق منه عيسى، حكاه الزجاج وهو مضمون كلام والماوردي، فيما سنذكره عند قوله: ( فحملته ) . قال أبي بن كعب وفيه بعد ; لقوله: " ابن الأنباري: فتمثل لها بشرا سويا " ، والمعنى: تصور لها في صورة البشر التام الخلقة . وقال جاءها في صورة شاب أبيض الوجه، جعد قطط حين طر شاربه . وقرأ ابن عباس: أبو نهيك: ( فأرسلنا إليها روحنا ) بفتح الراء من الروح .
قوله تعالى: " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " المعنى: إن كنت تتقي الله فستنتهي بتعوذي منك، هذا هو القول عند المحققين . وحكي عن أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي، وكان فاجرا، فظنته إياه، ذكره ابن عباس ابن الأنباري وفي قراءة والماوردي . علي عليه السلام، وابن مسعود، وأبي رجاء: ( إلا أن تكون تقيا ) .
قوله تعالى: " قال إنما أنا رسول ربك " ; أي: فلا تخافي، " ليهب لك " قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، ( لأهب لك ) بالهمز . وقرأ والكسائي: أبو عمرو، عن وورش ( ليهب لك ) بغير همز . قال نافع: من قرأ: ( ليهب ) فالمعنى: أرسلني ليهب، ومن قرأ: ( لأهب ) فالمعنى: أرسلت إليك لأهب لك . وقال الزجاج: المعنى: أرسلني يقول لك: أرسلت رسولي إليك لأهب لك . ابن الأنباري:
قوله تعالى: " غلاما زكيا " ; أي: طاهرا من الذنوب . والبغي: الفاجرة الزانية . قال وإنما لم يقل: ( بغية ); لأنه وصف يغلب على النساء، فقلما تقول ابن الأنباري: العرب: رجل بغي، فيجري مجرى حائض وعاقر . وقال غيره: [ ص: 218 ] إنما لم يقل: ( بغية ) ; لأنه مصروف عن وجهه، فهو ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) . ومعنى الآية: ليس لي زوج ولست بزانية، وإنما يكون الولد من هاتين الجهتين . " قال كذلك قال ربك " قد شرحناه في قصة زكريا، والمعنى: أنه يسير على أن أهب لك غلاما من غير أب . " ولنجعله آية للناس " ; أي: دلالة على قدرتنا كونه من غير أب . قال إنما دخلت الواو في قوله: " ابن الأنباري: ولنجعله " ; لأنها عاطفة لما بعدها على كلام مضمر محذوف، تقديره: قال ربك: خلقه علي هين، لننفعك به ولنجعله عبرة .
قوله تعالى: " ورحمة منا " ; أي: لمن تبعه وآمن به، " وكان أمرا مقضيا " ; أي: وكان خلقه أمرا محكوما به، مفروغا عنه، سابقا في علم الله تعالى كونه .