قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري .
قوله تعالى : " قال قد أوتيت سؤلك " قال ; أي : طلبتك ، وهو ( فعل ) من ( سألت ) ; أي : أعطيت ما سألت . ابن قتيبة
قوله تعالى : " ولقد مننا عليك " ; أي : أنعمنا عليك ، " مرة أخرى " قبل هذه المرة . ثم بين متى كانت بقوله : " إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى " ; أي : ألهمناها ما يلهم مما كان سببا لنجاتك ، ثم فسر ذلك بقوله : " أن اقذفيه في التابوت " وقذف الشيء : الرمي به .
فإن قيل : ما فائدة قوله : " ما يوحى " وقد علم ذلك ؟ فقد ذكر عنه جوابين : ابن الأنباري
أحدهما : أن المعنى : أوحينا إليها الشيء الذي يجوز أن يوحى إليها ; إذ ليس كل الأمور يصلح وحيه إليها ; لأنها ليست بنبي ، وذلك أنها ألهمت .
والثاني : أن " ما يوحى " أفاد توكيدا ، كقوله : فغشاها ما غشى [ النجم : 54 ] [ ص: 284 ]
قوله تعالى : " فليلقه اليم " قال : ظاهر هذا الأمر ، ومعناه معنى الخبر ، تأويله : يلقيه [ اليم ] ، ويجوز أن يكون البحر مأمورا بآلة ركبها الله تعالى فيه ، فسمع وعقل ، كما فعل ذلك بالحجارة والأشجار . فأما الساحل : فهو شط البحر . " ابن الأنباري يأخذه عدو لي وعدو له " يعني : فرعون . قال المفسرون : اتخذت أمه تابوتا وجعلت فيه قطنا محلوجا ، ووضعت فيه موسى وأحكمت بالقار شقوق التابوت ، ثم ألقته في النيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية ، إذا بالتابوت ، فأمر الغلمان والجواري بأخذه ، فلما فتحوه رأوا صبيا من أصبح الناس وجها ، فلما رآه فرعون أحبه حبا شديدا ، فذلك قوله : " وألقيت عليك محبة مني " ، [ قال : ومعنى " ألقيت عليك " ; أي : جعلت لك محبة مني ] . قال أبو عبيدة : أحبه وحببه إلى خلقه ، فلا يلقاه أحد إلا أحبه من مؤمن وكافر . وقال ابن عباس : كانت في عينيه ملاحة ، فما رآه أحد إلا حبه . قتادة
قوله تعالى : " ولتصنع على عيني " وقرأ : ( ولتصنع ) بسكون اللام والعين والإدغام . قال أبو جعفر : لتغذى على محبتي وإرادتي . قال قتادة : على ما أريد وأحب . قال أبو عبيدة : هو من قول ابن الأنباري العرب : غذي فلان على عيني ; أي : على المحبة مني . وقال غيره : لتربى وتغذى بمرأى مني ، يقال : صنع الرجل جاريته : إذا رباها ، وصنع فرسه : إذا داوم على علفه ومراعاته ، والمعنى : ولتصنع على عيني ، قدرنا مشي أختك وقولها : " هل أدلكم على من يكفله " ; لأن هذا كان من أسباب تربيته على ما أراد الله عز وجل . فأما أخته ، فقال : اسمها مقاتل مريم . قال : وإنما اقتصر على ذكر المشي ، [ ص: 285 ] ولم يذكر أنها مشت حتى دخلت على آل الفراء فرعون ، فدلتهم على الظئر ; لأن العرب تجتزئ بحذف كثير من الكلام وبقليله ، إذا كان المعنى معروفا ، ومثله قوله : أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون [ يوسف : 45 ] ، ولم يقل : فأرسل حتى دخل على يوسف .
قال المفسرون : سبب مشي أخته أن أمه قالت لها : قصيه ، فاتبعت موسى على أثر الماء ، فلما التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة ، فقالت لهم أخته : " هل أدلكم على من يكفله " ; أي : يرضعه ويضمه إليه ، فقيل لها : ومن هي ؟ فقالت : أمي ، قالوا : وهل لها لبن ؟ قالت : لبن أخي هارون ، وكان هارون أسن من موسى بثلاث سنين فأرسلوها ، فجاءت بالأم فقبل ثديها ، فذلك قوله : " فرجعناك إلى أمك " ; أي : رددناك إليها ، " كي تقر عينها " بك وبرؤيتك . " وقتلت نفسا " يعني : القبطي الذي وكزه فقضى عليه ، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، " فنجيناك من الغم " وكان مغموما مخافة أن يقتل به ، فنجاه الله بأن هرب إلى مدين ، " وفتناك فتونا " فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : اختبرناك اختبارا ، رواه علي بن أبي طلحة عن . ابن عباس
والثاني : أخلصناك إخلاصا ، رواه عن الضحاك ، وبه قال ابن عباس . مجاهد
والثالث : ابتليناك ابتلاء ، رواه عن العوفي ، وبه قال ابن عباس . وقال قتادة : ابتليناك بغم القتيل ابتلاء . وروى الفراء عن سعيد بن جبير ، قال : الفتون : وقوعه في محنة بعد محنة خلصه الله منها ، أولها أن أمه حملته في السنة التي كان ابن عباس فرعون يذبح فيها الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر ، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله ، ثم تناوله الجمرة بدل [ ص: 286 ] الدرة ، ثم قتله القبطي ، ثم خروجه إلى مدين خائفا ، وكان يقص هذه القصص على ابن عباس ، ويقول له عند كل ثلاثة : وهذا من الفتون سعيد بن جبير يابن جبير . فعلى هذا يكون " فتناك " : خلصناك من تلك المحن ، كما يفتن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث . والفتون مصدر .
قوله تعالى : " فلبثت سنين " تقدير الكلام : فخرجت إلى أهل مدين . ومدين : بلد شعيب ، وكان على ثماني مراحل من مصر ، فهرب إليه موسى . وقيل : مدين : اسم رجل ، وقد سبق هذا [ الأعراف : 86 ] .
وفي قدر لبثه هناك قولان :
أحدهما : عشر سنين ، قاله ابن عباس . ومقاتل
والثاني : ثماني وعشرون سنة ، عشر منهن مهر امرأته ، وثماني عشرة أقام حتى ولد له ، قاله . وهب
قوله تعالى : " ثم جئت على قدر " ; أي : جئت لميقات قدرته لمجيئك قبل خلقك ، وكان ذلك على رأس أربعين سنة ، وهو الوقت الذي يوحى فيه إلى الأنبياء ، هذا قول الأكثرين . وقال : " الفراء على قدر " ; أي : على ما أراد الله به من تكليمه .
قوله تعالى : " واصطنعتك لنفسي " ; أي : اصطفيتك واختصصتك ، والاصطناع : اتخاذ الصنيعة ، وهو الخير تسديه إلى إنسان . وقال : اصطفيتك لرسالتي ووحيي ، " ابن عباس اذهب أنت وأخوك بآياتي " وفيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها العصا واليد ، وقد يذكر الاثنان بلفظ الجمع .
والثاني : العصا ، واليد ، وحل العقدة التي ما زال فرعون وقومه يعرفونها ، ذكرهما . [ ص: 287 ] ابن الأنباري
والثالث : الآيات التسع . والأول أصح .
قوله تعالى : " ولا تنيا " قال : لا تضعفا ولا تفترا ، يقال : وني يني في الأمر ، وفيه لغة أخرى : وني يونى . ابن قتيبة
وفي المراد بالذكر هاهنا قولان :
أحدهما : أنه الرسالة إلى فرعون . والثاني : أنه القيام بالفرائض والتسبيح والتهليل .